رمضان في ضيعتي
كتب الأستاذ محمود عبد القادر سعيفان : للشهر الكريم في النفس منزلة سامية ، وفي القلب مستودع ومستقر ، درجنا على حبه منذ الصغر ولا زلنا وسنبقى أوفياء لهذا الحب بعونه تعالى ما دامت نقطة دم تجري في عروقنا ، فهو المحطة الكبرى التي نتزود منها بالوقود الإيماني الذي يكفينا مؤونة العام الهجري بكامله .
إنه شهر الخير والبركة ، والمحبة والتواصل والتراحم ، والجهاد والتضحية ، إنه شهر التقوى والمغفرة ، إنه شهر رمضان المعظّم .
من الطفولة إلى الرجولة والبطولة ، وحتى الكهولة لنا مع القادم المرتقب والوافد المرتجى صولات وجولات ، تشد الأواصر ، وتقوي العلاقات ، فلا يعتريها فتور ولا وهن ، ولا تنفصم عراها وإن تواترت النوازل والمحن ، واشتدت المشقات والصعوبات .
كنت في السادسة من عمري عندما كان والدي رحمه الله يجمع أفراد الأسرة وأنا واحد منهم في بهو منزلنا من الحجر الصخري في حي الجامع الكبير في برجا ، والذي ما زال طابعه الأثري وبعد مرور ستين عاماَ ماثلاَ في ذاكرتي ، وكان يوصينا بالصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت بعد أن يُكثر من التشهد والصلاة على النبي ويطلب منا حفظ القرآن الكريم ويركز على قصار السور لقراءتها في الصلاة .
كان والدي من عشاق السفر إلى فلسطين ، وكان لا يعود منها إلا مرة واحدة كل عام ، وقبل حلول رمضان ، فنحن دائماَ على موعدٍ مع التوأمين نفرح بهما ونستقبلهما بالحفاوة والتكريم ونحزن لوداعهما قبيل رحيل الثلث الأول من شوال .
ذات يوم أضرمت أمي ناراَ حامية في موقدة من الطين ، ووضعت عليها الدست وفيه مبروش اليقطين ، وأخبرتنا بأن والدي فور عودته من فلسطين أمرها أن تصنع الحلوى لليلة النصف من شعبان .
سألتها من هو شعبان ؟ أجابت والبشر بادِ في محياها : إنه شقيق رمضان الذي يُبشر بقدومه ، ونستعد لصيامه . تذكرت حينها وصية والدي بصوم رمضان وهو الآن على الأبواب ووالدي أكثرَ من المؤونة للضيف العزيز الذي أوشك أن يحلّ أهلاً ويطأ سهلاً .
وبدأ الدم يغلي في عروقي كغلي اليقطين في المرجل ، ليس شوقاً لتناول الحلوى ، ولكن فرحاً وطرباً بوفادة خير الشهور .
لن أنسى ما حييت يوماً أمرني فيه والدي العائد من السفر بصحبة رمضان أن أملأ له إبريق الفخار ماءً طازجاً من عين الضيعة قبيل أذان المغرب في يوم رمضاني حار ، وكان الله قد كفانا شر إنقطاع الماء والكهرباء لأنها لم تكن متوفرة بعد في بيوتنا .
لم أنسَ توصية والدي بأن أغسل الأبريق جيداً من الداخل والخارج ، وكررت العملية مراراً ، وعندما ملأته وراق لي منظره ، وكنت بالطبع صائماً – سكبته في فمي حتى آخر نقطة فيه ، ومن شدة إشتياقي إلى الماء كان يتدفق على صدري ويبلل قميصي حتى السرة ثم يتوزع في الخصر يميناً وشمالاً .
ملأته ثانية وعدت إلى البيت وناولته لوالدي وأنا في حالة إنتشاء ، ليس من الشرب ولكن فرحاً بأنني قمت بالواجب نحوه ، ولبيت طلبه .
نظر إليّ جارنا الجالس بجواره وكان يتصف بالنقد اللاذع قال بلهجة الساخر : محمود لم يشرب الماء من العين ولكن قميصه هو الذي شرب ! ، عندها أجهشت بالبكاء بعد أن أدركت ما اعتراني من النسيان ، ثم علا صوت المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، ربت والدي على كتفي مطمئنا وقال : صيامك مقبول ودعاني لتناول الفطور ، ومنذ ذلك الحين تعلمت منه بأن الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً فلا يبطل صومه .
وتمر الأعوام سراعاً ويصبح خالي أحمد أبو خانة ( مسحراتي ) في بلدتنا ثم ما لبث أن نافسه على المهنة ( أحمد ) آخر .
كان الأحمدان يجوبان شوارع القرية مناصفة بينهما بخفة ورشاقة لإنهاء المهمة قبل آذان الفجر ، ثم يتبادلان الأحياء في الليلة الثانية وهكذا دواليك حتى إنتهاء الشهر الكريم .
في إحدى الليالي طلبت من خالي أن يأذن لي بمرافقته ، وكان صوت الطبلة يغريني ويطربني خصوصاً عندما يعرضها للنار ويضرب عليها بأصابعه ، وما يتخلل المهنة بين الحين والحين من إبتهالات ؟ فاستجاب لطلبي ولكنه رفض السماح لي باستعمال الطبلة نظراً لضيق الوقت ، وكان الصوت الآخر يتردد صداه في سكون الليل ، فتسللت وأقتفيت أثره ، إلتقيت بصاحبه وشرحت له الظلم الذي لحق بي من خالي ، طالباً إليه أن يمنّ عليّ باستعمال طبلته ربما من قبيل النكاية ، وكانت المتعة في أوجها ، وفجأة اختفى صوت الخال في الحي المقابل ، ولم يعد له رجعٌ كما بدأ . في الطريق المحاذي لبيتنا ودّعت صاحبنا بعد أن أرشدني إلى الذهاب قبل أذان الفجر ، فالمهمة شارفت على الإنتهاء .
وصلت إلى البيت وبعد لحظات جاء خالي فنهرني غاضباً : يا خالي شغلت بالي ، بدل ما فيّق الناس ، قضيتها تفتيش عليك ، التوبة إذا باخدك معي بعد .
علم والدي بما حدث فوبخني على فعلتي ، ثم أمرني بتناول السحور ، وقد إرتفع الصوت بأذان الإمساك .
لن انسى ما حييت كيف كان أهل بلدتنا يهتمون بمراقبة هلال رمضان ، فإذا تأكدت رؤيته عُقدت حلقات الرقص والدبكة في ساحة العين ، ويبدأ التكبير والتهليل في مئذنة جامع برجا الكبير الوحيدة آنذاك وأخوتها اليوم كثيرات وأحياناً يتنادى هواة ( النوبة ) يدقون المزاهر ، ويقرعون الطبول ، ويرفعون الأعلام التي تحمل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .
وفي أيام الصيام كانوا يتناوبون على الولائم ، كل يوم في بيت أحدهم ، وكانوا يشاركون بعضهم بعضاً في إعداد الطعام ، فتسود الألفة والمحبة وتتعزز روح الجماعة ، وكانوا يهتمون كثيراً بالصدقات وبإخراج زكاة الفطر رغم الحاجة والفقر ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وجوهر هذه الأعمال والممارسات الهادفة لا يزال قائماً وإن تغيرت الأشكال والصور . فوجود الجمعيات الخيرية والإجتماعية وإنشاء المؤسسات الإسلامية الفاعلة التي أخذت على عاتقها تكريم رمضان والعمل في ميادين البر والإحسان تطوعاً وليس مِنة ، ألغت الكثير من مظاهر التخلف والفقر والأمية ، وهي اليوم تغطي جملة الإحتياجات والمتطلبات التي كانت تئن تحت وطأتها بعض العائلات .
إن التطور التقني والتقدم العلمي والنجاح الإعلامي وتوفر المواصلات ، أسباب ساهمت إلى حد بعيد في التواصل بين الحضارات والإنفتاح على الآخر ، وهيأت فرص المعرفة وسبل الحوار ، وأتاحت لنا سرعة التحرك للأخذ بما يعود علينا بالمنفعة والفائدة لتقوية علاقتنا بتراثنا الإسلامي ، ومنه طريقة إحتفائنا بخير الشهور ونبذ كل ما هو زائف ومدمر للأخلاق والقيم .
فدخول الراديو والتلفزيون اللذين كنا نسمع بإختراعهما عندما كنا صغاراً – ولا نصدق المعجزة الكبرى – ومن بعدهما الكمبيوتر والإنترت إلى كل بيت أحدث إنقلاباً في التعاطي مع الحدث وفتح الباب واسعاً على الإحتمالات .
في السنين الخوالي كان راديو دمشق كما هو اليوم محبباً الى قلوبنا وأسماعنا خصوصاً في شهر رمضان ، وكان أكثر ما يشنّف آذاننا الأناشيد والموشحات بصوت المرحوم توفيق المنجد وفرقته ، كانت الأصوات غاية في الحلاوة والطلاوة واللحن ساحراً وممتعاً ، والأداء مميزاً ، يأخذ بمجامع القلوب ويسيطر على المهج والأرواح .
وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين كثرت المدارس التي تعني بالأناشيد ، وتنوعت الفرق من هنا ومن هناك ، ولكن برغم ذللك لا تزال الأصالة ماثلة للعيان ، ولا تغيب عن الأذهان .
لقد أصبحنا اليوم نقيم المهرجانات الخطابية ، والبرامج التثقيفية والندوات والمحاضرات في إستقبال الشهر الكريم وخلال أيامه الموحية التي تعتبر مواسم عبادة وتقرب إلى الله تعالى . أما عن المسيرات وحمل المشاعل ليلاً في الطرقات فحدث ولا حرج .
كنا فيما مضى من عشاق التلاوة بصوت الشيخ محمد عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله بعد أن غزا المذياع البيوت والأسواق فهو المقرئ المميز بصوته الرنان وكان أكثر ما يميزه شهر رمضان .
واليوم يفد إلينا العديد من القراء الذي يبدون أكثر تميزاً عن سلفهم ، فهم خير خلف لخير سلف وإلا فالشاشة الصغيرة هي الملاذ الآمن لحسن الإستماع والإستمتاع .
أما ختم القرآن مرة أو أكثر في رمضان في المساجد والبيوت كان ولا يزال هم الكثيرين قديماً وحديثاً .
كان بيتنا في برجا يقع حتى عام 1965 قرب المسجد الكبير وكانت متعتنا نحن صبية الحي أن نهرع قبيل أذان المغرب إلى سُلم الجيران المشرف على المئذنة وهو سلم طويل يربو على الأربعين درجة من الحجر الصخري وكان مستقيماً حتى يكاد يبلغ إرتفاعه عند اعلى درجة منه ستة أمتار ، وكانت حجارته المفككة تميد تحت أقدامنا الطرية عند الصعود والهبوط لأنه سُلم قديم لم تجر عليه أعمال الصيانة منذ بنائه ، وكنا نخشى بعضنا بعضاً من التدافع عليه خشية السقوط لأنه لم يصوّن من الجانبين ، وقد وقع أحدنا من الدرجة العاشرة ولكنه لم يصب بأذى .
كانت فرحتنا الكبرى أن نسمع الأذان المرتقب ، فقد كان التوقيت عندنا ، عين على الشمس تراقب غروبها وعين على المئذنة تترقب وصول الشيخ سعيد أحمد غصن إليها بفارغ الصبر ، ويُعرف من عمامته الناصعة البياض .
الشيخ (سعيد) معجزة بذاته ، رجل في الخامسة والستين من العمر ، كفيف منذ الصغر ، حفظ القرآن غيباً بتجويده وترتيله ، وقد علّمه بأحكامه التي كان يتقنها جيداً للأجيال المتعاقبة في مدارس برجا والجوار .
والذي يثير الدهشة كيف أن شيخاً كفيفاً بهذا العمر يأتي من بيته الى المسجد بدون مساعدة ويتسلق المئذنة ذات السلم اللولبي الضيق ألذي لا يقل عدد أدراجه عن سلم الجيران – خمس مرات في اليوم بل أكثر ويطلق العنان لحنجرته لكي يصل الأذان إلى أسماع الناس ، فمكبرات الصوت لم تكن موجودة آنذاك ، وإلا لكفت شيخنا شر ما يكابده من تعب ومعاناة .
تسللنا ذات يوم وصعدنا إلى المئذنة بصعوبة بالغة وكانت المناسبة وداع رمضان . همنا الوحيد أن نساعد سعيداً ونرى الضيعة من علٍ . كان الشيخ يرتل الأناشيد والموشحات ونحن نرد وراءه والفرحة تغمر قلوبنا وكأننا طيور تعانق أجواز الفضاء ، أما النزول من المئذنة فقد كان أصعب من العود إليها بكثير .
كانت عمامة الشيخ سعيد عندما تطل علينا من المئذنة والشمس التي تودع لحظة الغروب خير تقويم هجري وميلادي أعتمدناه لسنوات عديدة ، وهنا لا أنسى ساعة الجيب التي كان الشيخ يتحسسها بأصابعه بين الحين والحين لمعرفة الوقت ، ثم يدنيها من أذنه ليتأكد من عدم توقفها ، ثم يطبق عليها الغطاء المحكم ويعيدها إلى جيب سترته المثبتة إليها بسلسلة ودبوس .
كان بعض الناس لا يرون المئذنة ولا يصل صوت الشيخ إلى أسماعهم ولكنهم يشرفون على سُلم الصبية من أماكن تواجدهم فإذا وجدوه خالياً يتأكدون من دخول الوقت ويتناولون طعام الإفطار .
في الثاني عشر من رمضان 1398 هجرية الواقع فيه الخامس عشر من آب 1978 م ، طلب إليّ أحد الأصدقاء أن أشاركه في مشروع تجاري يقضي ببذل بعض الجهود جسدياً وفكرياً ، فأستجبت له ولكن على مضض ، لأنني أفضّل التفرغ للعبادة في الشهر الكريم ، وخلال النهار أشتد الحرّ كثيراً وكاد يخنق أنفاسي ولم أجرؤ على الإفطار مع أنني كنت في سفر – وقد أكتشفت عند المساء أنني وقعت في خطأ حسابي كلفني ثلاثماية ليرة لبنانية ، عندما كانت القوة الشرائية لليرة تساوي ألفين أو ثلاثة من قيمتها في هذه الأيام – كتمت الأمر عن الشريك ولم أتقاسمه الخسارة ، ولكنني تحملتها بمفردي وسددت الحساب من جيبي وحمدت الله تعالى على إتمام الصيام بكلفة ثلاثماية ليرة لبنانية فقط بعد أن تجرعت ثلاثة أباريق من الماء البارد .
بسم الله الرحمن الرحيم
كل عام والجميع بخير اللهم بلغنا رمضان واعنا على القيام والصيام
رمضان شهر الانتصارات على الاعداء وهوشهر الفتوحات ايها المسلمون انتصروا على شهواتكم وافتحوا قلوبكم يفتح الله عليكم.