سلام الله على قلبك يا محمد يا ديماسي
كتب الأستاذ أحمد سليم عزام : من المعالم الدينية الأثرية في برجا الشوف ، مزار مشهور يعرف بمقام محمد الديماسي ، وهو عبارة عن حُجرة ذات حوائط سميكة مزدوجة من الحجارة الضخمة ، في داخلها ضريح لصاحب المقام .
تقع هذه الحُجرة على تلة مطلة على برجا القديمة من الجهة الجنوبية الشرقية كما تطل على ساحل الشوف من السعديات حتى مدينة صيدا جنوباً .
تسجل ذاكرة الأجيال ويذكر المسنون في برجا ، أن هذا المقام كان في الماضي محاطاً بسور عال من الحجارة الكبيرة يبدأ من تقاطع طريق الروس – المعبور ، ويمتد صعوداً بجانب طريق الديماس – بيادر الروس ، على شكل قوس وينتهي عند آخر مبنى مدرسة الإيمان ، قرب منزل محمود عزام المعروف بـ محمود كوكب ، وقد ظلت حجارة السور وبقاياه قائمة قرب مدخل المدرسة الرسمية ، المعروفة بإسم مدرسة الديماس الرسمية ، إلاّ أن هذه البقايا أزيلت منذ سنوات قليلة بسبب الجرف والبناء .
كان الضريح قبل بناء الحجرة دارساً تكتنفه أشجار السنديان الباسقة ذات الجذوع الضخمة والأغصن المتشابكة الوارفة التي تلقي بظلالها الكثيفة على المكان فتجعله معتماً .
وكان في هذا المكان قبور دارسة ، اختفت معالمها عند حفر الأساسات لتوسعة البناء ، وقد عُرف المكان (بالدميس) ومعناه الموضع الذي أختفى ولم يظهر له أثر ، وهو مشتق من الفعل (دمس) والجمع (دياميس) ومعناها النفق أو دهليز الدفن أو الضريح .
ومن هنا جاءت تسمية المنطقة (الديماس أو الدميس) أما اسم صاحب الضريح بالديماسي ، فهي نسبته إلى الديماس المكان الذي دُفن فيه ، وليس صحيحاً أنه من عائلة الديماسي الصيداوية أو من بلدة الديماس السورية ، لا سيما وأن مقام الديماسي خال من أية إشارة لإسمه أو لتاريخ وفاته .
وكما نُسب الديماسي إلى الديماس ، كذلك نُسبت المناطق المحيطة به والقريبة منه إلى الديماس أيضاً ، فأطلق على المقام اسم ( جامع الديماس أو الدميس ) وقالوا : ( بيادر جامع الديماس أو الدميس) وبلايط جامع الديماس أو الدميس ، ضهر جامع الديماس أو الدميس ، وأهل جامع الديماس أو الدميس للسكان القليلين المجاورين للمقام .
هذا وحول المقام أراض تعرف بوقف الشيخ محمد الديماسي ، يقول أحد كبار السن من آل الحاج : إن العقار الواقع شمالي وغربي المقام وقفه الشيخ اسماعيل الحاج شيخ قرية برجا أواخر القرن التاسع عشر ، وأما (الضهر) وهو العقار المحيط بالمقام من جهتي الشرق والجنوب فكان لرجل من آل عزام ، كما روى لنا الحاج أحمد سعيد دمج (الطحش) المولود سنة 1912 ، نقلاً عن مسنين اشتغلوا بغرس أشجار الزيتون في هذا العقار : أنه في أوائل القرن التاسع عشر حضر إلى برجا رجل غريب ، أقام فترة بجوار المقام ، لم يذكر أحد عنه سوى إسمه الأول (محمود) أو الشيخ محمود ، وأغلب الظن أنه مصري .
سمعنا في طفولتنا من كبار السن أن الشيخ محمود كان فارساً فارع الطول ، قوي البنية ، يضع على وجهه قناعاً ، وكان يقتني الخيول ويروضها في الحقل الفسيح حول المقام (الضهر) ، وكانوا يشاهدونه كل صباح ، واقفاً على الشوار بيده منظار يستعمله في مراقبة المناطق الساحلية ، بعد ذلك ينطلق على صهوة جواده حيث لا يدري أحد إلى أين هو ذاهب ، وعند المساء يعود ومعه عدد من الخيول .
ذات يوم طلب الشيخ محمود من الفلاحين في الديماس ، أن يعاونوه على ترميم الضريح ، ولما حضروا طلب منهم أن ينبشوا القبر ، ففعلوا ، ولما وصلوا إلى اللحد طلب منهم أن يصعدوا وأن يأتوه بغطاء ( ستار ) ، ثم نزل إلى القبر تحت الستار ، فأزاح اللحد وشاهد جثّة الديماسي صاحب الضريح وأطبق اللحد وصعد .
وكان الحاج محمود سيف الدين (جدّ بيت حسنة) مع الحاضرين ، فأطل برأسه من خلال الستار وشاهد جثة الميت ، فدُهش وصدرت منه كلمة عفوية : أسمر ، أسمر ، ولما سألوه ماذا رأى ؟ قال لهم : رأيت جثة رجل أسمر اللون ، ذي لحية سوداء ، ممتلىء الوجه ، يشع النور من جبهته وهو مغمض عينيه ، وكأنه نائم في فراشه .
بعد أن أكملوا وضع التراب على اللحد وسوّوا الضريح ، وغطوه بالستائر الحريرية الخضراء ، سألوا الشيخ محمود عن هوية صاحب المقام فقال لهم : إنه رجل صالح تقي عاش في هذا المكان منصرفاً إلى الصلاة والعبادة . وعندما أدركه الأجل دفن ههنا في هذا المقام . إنه الشيخ محمد الديماسي ولم يزد على ذلك شيئاً .
وهناك رأي آخر يحتمل فيه أن يكون محمد الديماسي فارساً محارباً من المرابطين على السواحل لرد هجمات الأعداء ، وأن موقع المقام على هذه التلة المطلة على السواحل ، وبناء السور من حوله يوحي بأنه كان حصناً ومركزاً عسكرياً ، أيام الدولة الإسلامية يجتمع فيه الجند ومنه ينطلقون إلى المرابطة والجهاد ، ونحن لا نجزم بذلك ، ولكن مجرد رأي ، ولعل الشيخ الديماسي كان فارساً ومحارباً أو قائداً لهذا الموقع ، وأنه جرح أو استشهد في المواجهات بينه وبين الأعداء ودفن في هذا المكان ، وأن رفاقه الآخرين دفنوا إلى جانبه ، لهذا بني هذا المقام وأحيط بالقداسة والإحترام تقديراً للشهيد ، وإحياء لذكراه .
وبعد ترميم الحُجرة من الداخل بُني فوقها قبة أصبحت فيما بعد معلماً هاماً من معالم برجا الدينية والأثرية . وكلمة قبة مرادفة في البناء الأسلامي لكلمة تربة أو مدفن أوضريح ، وأستعملت هذه الكلمة على المدفن في العصر العباسي . وأقيمت القباب فوق المدافن بعد ظهور الأسلام بفترة طويلة .
وهكذا عُرف هذا المقام بإسم مقام محمد الديماسي وأحياناً بإسم جامع الدميس ، وأصبح الشيخ محمد الديماسي في المعتقد الشعبي البرجاوي ولياً من الصالحين كما أصبح ضريحه مزاراً لكثيرين من برجا وخارجها . يقصدونه للتبرك به ، والتقرب بواسطته إلى الله ورسوله .
من الممارسات الشعبية المرتبطة بالمعتقد الديني ، قيام النساء بزيارة هذا الضريح يقبّلنه ويجلسن حوله ، ويختمن ذلك بتوسلات ودعوات ويتركن في صندوق موضوع في زاوية الحُجرة قطعاً من النقود .
ومن النساء من تأتي للتبرك به والتداوي من السحر والكتابة ومن العقم وسوء الحظ ، ومنهن من يأتين طلباً للزواج أو التي لم تنجب بعد أو طلباً لإنجاب الذكور للتي لم ترزق بمولود ذكر .
وهناك زيارات للوفاء بالنذور حيث تكون المرأة قد نذرت أن تتبرع عن أولادها أو عن زوجها أوعن نفسها بمبلغ من المال أو بكمية من الشموع لمحمد الديماسي على أثر نجاح أو شفاء من مرض أو نجاة من حادث .
وكانت النذور عادة قطعاً نقدية ، أو مقداراً من الزيت أو الكاز أو الشمع ، وكان النساء أحياناً يصطحبن أولادهن لزيارة المقام . وعندما تدخل الواحدة منهن إلى المقام تقف أمام الضريح وتقبله قائلة : سلام الله على قلبك يا محمد يا ديماسي ، ثم تقرأ الفاتحة وتستأذن صاحب الضريح بأخذ قطعة صغيرة من الستار الأخضر ، تجعلها أشرطة تربط بمعصم كل ولد للتبرك والحفظ من العين . وتعود المرأة من هذه الزيارة مرتاحة النفس لأنها وفت نذرها آملة أن يستجاب دعاؤها وتتقبل زيارتها .
كان الإيمان والإعتقاد بالأولياء يعمر نفوس الكبار والصغار ، فكان المارون على الطريق عندما يصلون إلى محاذاة المقام ، يرفعون يدهم اليمنى قائلين : سلام الله على قلبك يا محمد يا ديماسي ، وهم يخوّفون أولادهم من عقاب محمد الديماسي ، ويحلفون به إحتراماً لهذا الولي وتعظيماً له .
وكانوا يحافظون على أملاك الوقف وعلى أمواله فلا يقربوها ، فالفلاح يحاذر من أن تقترب حيواناته من أرض الوقف ، ولا يجرؤ على المس بأشجاره أو مزروعاته ، حتى لا ينزل عليه غضب الولي الصالح .
روي أن أحد الفلاحين أطعم بقرته حشيشاً من أرض الوقف ، فمرضت البقرة ثم نفقت أي ماتت ، فحزن عليها وجزع ثم أسرع إلى زيارة محمد الديماسي وقرأ الفاتحة وتوسل إليه طالباً العفو ، قبل أن يكتشف أن في ضهر جامع الديماس عشبة سامة تعرف بالذرة الرزينة .
وحصلت حادثة ثانية مع امرأة كانت تحتطب ، فمرت قرب وقف الديماسي فوجدت غصن زيتون قد كسرته الرياح وألقت به إلى الطريق ، أشعلت المرأة شيئاً من هذا الحطب تحت طنجرة حليب فانقلبت الطنجرة وسال الحليب على الأرض . فأغمي عليها وندمت ، وما كان منها إلاّ أن حملت الحطب وأعادته آسفة نادمة .
كان الناس يعتقدون أن الأولياء يتزاورون وأن أرواحهم تنتقل من مكان إلى مكان ، وإليكم هذه الحادثة التي رواها أحد سكان الديماس ، وتناقلتها الأجيال ، قال : إنه كان يشاهد كل ليلة طيفاً حوله هالة من نور ، يرتفع في سماء المقام الديماسي ويتجه صوب الغرب ، ماراً فوق منزله ، وعندما يقترب من مقام النبي يونس في الجية ينزل رويداً ثم يتلاشى ويتبدد ، وكان هذا الرجل يتشاءم ، ويخشى أن يصيبه مكروه ، وبسبب وجود منزله في طريق الولي .
وشاء القدر أن يُصاب الرجل بما كان يخشاه ، فقد توفي ابنه البكر وهو في عزّ الشباب ، فحزن حزناً شديداً ، وخاف من أن تنزل به مصيبة أخرى ، فهجر البيت وانتقل إلى مكان آخر .
إن كلمة الوقف مخيفة ، والإعتداء على الوقف قولاً أو فعلاً ، والإساءة إليه تعرض صاحبها لغضب الله ومقته ، ونزول المصائب عليه والعياذ بالله .
وفي الأمثال الشعبية ما يؤكد على حرمة الوقف والمحافظة عليه ، فإذا دعا أحدهم على أحد كان قد أكل ماله قال : إن شاء الله بيكونوا للوقف . وإذا كان لدى الرجل رصيد يحافظ عليه ، مثل ثمن سيارة أو فدّان أو غير ذلك قال مثلاً : حق الفدّان مثل مال الوقف ، وأذا وصفوا أحداً بأنه يأكل مال الناس قالوا عنه : إنه نصّاب بياكل مال الوقف أو بياكل حرَام النبي .
نعود إلى الممارسات التي كان النساء يقمن بها : فقد تزور المرأة مقام الديماسي وهي حافية القدمين ، لأنها نذرت ذلك إذا شفي ابنها من مرض أو من عملية جراحية أو حادثة خطيرة ، ومنهن من تزور الضريح ليلاً أو تمضي الليل بجواره ، ترفع الدعوات والتوسلات لتحقيق طلبها .
سمعت عن إمرأة أنجبت خمس بنات ولم تنجب ذكراً ، وفي كل مرة كانت تدعو الله أن يرزقها مولوداً ذكراً ، ولكن هي مشيئة الله (يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور) كادت المرأة أن تيأس من رحمة الله ، ففكرت بالتوسل إليه عن طريق زيارة ضريح محمد الديماسي ، ودخلت المقام مع حلول الظلام ، وجثت على ركبتيها ضارعة متوسلة سائلة الله أن يرزقها مولوداً ذكراً تقرّ به عينها ، وكانت ترفع الدعاء بجاه محمد الديماسي وبجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمضت الليل بالدعاء والتوسل ، ولما أصبح الصباح ، إنصرفت إلى بيتها ، هذه المرأة لم تقرأ قول الله تعالى ” وقال ربكم ادعوني استجب لكم ” ولم تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم ” إذا سألت فاسأل الله وإذا إستعنت فاستعن بالله ” ، فاستجاب الله دعاءها وأنجبت مولوداً ذكراً أسمته (زيد) ، وكانت العادة في بعض البلاد العربية تسمية الأولاد الذكور بأسماء فيها معنى الزيادة طلباً للإكثار من الذرية ، مثل زيد ويزيد ومزيد وزيدون … وبعد زيد أنجبت تلك المرأة ثلاثة ذكور .
ذكرنا في مكان آخر أن الشيخ محمد الديماسي كان رجلاً صالحاً تقياً ورعاً ، أقام في هذا المكان منصرفاً إلى العبادة ، فوجود هذا الرجل في هذا المكان البعيد عن العمران في ذلك الوقت المشرف على ما حوله من كل جهة يحملنا على القول : إن الشيخ الديماسي كان صوفياً وشيخاً لطريقة صوفية ، له أتباع ومريدون ، يأخذون عنه مبادئ الطريقة ويتدارسون الأوراد والأدعية ويتفقهون في الدين ، ويمارسون طقوس طريقتهم في أجواء روحانية هادئة ، مثل الحضرة وحلقات الذكر .
وهؤلاء المريدون يتوزعون في المناطق ويجوبون القرى والبلدات ، يشرحون للناس مبادئ طريقتهم ويدعونهم إلى الإنتساب إليها .
وعندما توفي الشيخ الديماسي دُفن في هذه البقعة وتابع أصحابه نشر دعوته وتعاليمه ، وما هذه القبور الدارسة حول المقام سوى قبور لهؤلاء الأتباع . وكما كان الديماسي تقياً ورعاً ، فإنه كان عالماً فقيهاً محباً للعلم والعلماء ، وما إنتشار دور العلم والمدارس والمساجد في وقف الديماسي إلا تحقيق لهدف هذا الشيخ الجليل وتحقيق لأحلامه ، ففي العام 1964 افتتحت المدرسة الرسمية في الديماس وفي المبنى نفسه الذي يرقد فيه الشيخ الديماسي ، وازدهرت هذه المدرسة في الستينيات والسبعينيات ووصل عدد طلابها إلى قرابة الألف ، وكان بعض المدرسين يؤدون الصلاة في حرم المقام ، وكذلك بعض التلاميذ والزوار .
ثم أقيم عن يمين المقام مصلى تؤدى فيه الصلوات الخمس ، وشرقي المقام بُنيت مدرسة الإيمان في أواخر الثمانينيات .
وبعد سنوات بني مسجد الشيخ محمد الديماسي ، وأنجز وأثث على نفقة المحسنين أهل الخير جزاهم الله خيراً ، ويضم المسجد قاعة فسيحة تتسع لمئات الأشخاص ، تلقى من على منبرها المحاضرات الدينية والدروس الفقهية ويجتمع فيها أبناء البلدة في المناسبات المختلفة ، ومنها مناسبات التعزية . إن مسجد الديماسي من البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، وقد ارتفعت مئذنته الرشيقة ضاربة في أجواز الفضاء تحمل هذا الصوت الحبيب ، صوت المؤذن وهو يدعو المسلمين إلى الصلاة في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ” الله أكبر الله أكبر ” كل ذلك بفضل الله وبركة الديماسي .
عجبني الموضوع لانو اسم الشخص نفس اسمي وانا اول مرة اسمع فيه وفي المقام