بين برجا والجية… يحيا الحبّ
بعرق الجبين وبدمع العين وهمة الشباب مازال “أبو أنور” أحمد خليل شبو يعيش في صومعته الصغيرة بناحية “الصوّانة” ببلدته برجا، بين أشجار التين والزيتون والتوت واللوز، والتي لطالما نكشها وزرعها وسقاها ودرّت عليه مواسم رزق وخير من كل صنف ونوع، من البندورة والخيار إلى الكوسى والملوخية والفول والبازيلا.
اليوم، هو على مشارف السنة التسعين ما كلّ ولا ملّ من حياته المفعمة بالتحدي والعزيمة والعمل، فقد تنوعت ميادين إنتاجه منذ فتوته وشبابه، بين بلدته برجا والقرى من حولها والتي صارت وكأنها “برجا الكبرى” كالجية والبرجين وبعاصير وجدرا. تعلم في كُتّاب الشيخ محمد عبد الغني سعد بحارة العين في برجا القديمة، وكان مبرزاً بين أقرانه من الفتيان، كما كان ذا صوت شجي حنون يؤذن للطلاب حين يصطحبهم الشيخ لأداء الصلاة في جامع برجا الكبير.
ما طال مكث الطالب أحمد في الكتّاب، فقد توفي والده وهو لما يتجاوز العاشرة من عمره، فانصرف إلى رعي البقر سنوات عدة، تحول بعدها إلى ميدان الزراعة على ساحل الشوف في الجية، فصار خبيراً بدقائقها وعارفاً بمواسمها ومحيطاً بأسرارها.
حين أطل على الثلاثين من عمره إنتقل إلى مجال البناء “العَمَار” على يد المعلم “أبو علي” أحمد سعيد دمج المتوفى عام 2017. يقول أبو أنور وهو من مواليد 1929 والدته “نسيبة عزام”: “عمّرت نصّ برجا. منهم: بيت منذر شبو وشقيقه خلف في حي القلعة وبيت صالح المظلوم بالديماس وبيت سمير خضر شبو وفيلا عمر راجح شبو بالمعبور، بالإضافة إلى بيوتات كثيرة في بعاصير والجية والبرجين.
آخر بيتين عمّرتهما، كانا بيت محمد حلمي غصن في سنديانة أم شراطيط على طريق برجا البرجين، وعمارة إبنه الدكتور منير حيث عيادتُه بالصوانة. قبل هذا الكفاح وبعده فإن أبا أنور إبن برجا، هذه الأرض الطيبة من جبل لبنان، التي طالما فتحت بيوتها لكل مظلوم ومضطهد، حتى قيل إن أصل تسميتها هي “برّ اللجا” حيث كانت ملجأً لكل مستضعف عبر الزمان.
أبو أنور رجل إنسان من طراز فريد، سيرته طافحة بالوفاء والحب والإنفتاح في زمن تقوقع اللبناني وأقام في قمقمه المذهبي والطائفي، رجل تغلّب في حياته على نوازع العصبية وفورات الغرائز التي مافتئت تصيب الوطن وأهله فتصيبهم في مقتل.
قصته مع بلدة الجية تتحدث عن مآثره وتحكي حكاية برّه ولهفته وسابقته في إعلاء العلائق الإنسانية على كل ما يشد الناس إلى دواعيهم السفلية ومستنقعاتها الآسنة.
حين أطل على الثلاثين من عمره، كان أحمد خليل شبو شاباً جلداً، عصامياً، يأكله العمل والجد والنشاط في بلدة الجية زراعةً ورعياً وسهرات ومقاماً وصلات وكأنه واحد من أبنائها، يستأجر الأرض ويفلحها ويزرعها ويقطف محصولها، حتى إذا أقبل الليل سهر مع أهلها وأحيا حفلاتهم بالميجانا والعتابا والدلعونا، فقد كان أنيس مجالسهم وفتاها المحبب. يقول أبو أنور: “بنات الجية تولّعو فيني كتير، وأولهم زوجتي “رينيه حاتم حاتم”. أحببتها منذ أن كان عمرها إثنتي عشرة سنة فبادلتني الحب بمثله.
ما قام عرس في الجية إلا على عاتقي. كنت أرتجل السهرة كلها، بينما غيري يحفظ القليل والذي ما إن يفرغه من ذاكرته حتى ينصرف”.
يمّ التنّوره لونا عنّابي / حبّك قطفلي زهرة شبابي
يوم لـ ما بشوفك بشعل بتيابي / نهورا وبحورا ما بيطفّونا
ليلي يا ليلى يابنت بلادي / متلك ما ارتبى بكل البوادي (تربّى)
عطيني من لحظك لـ انكي الأعادي / لو كانو حولي تنعشر مليونا
يمّ التنّوره طيّي ع طيّي / ومتلك ما تكوّن بالبشريه
وأني بحبك قاطع هويّه / كل الأعادي ما بيهمّونا
ما خلّو دكتور حتى نادولي / والعلّه من قلبي كنش يشيلولي
لكن من ريقك لما جابولي / زالت عن جسمي كل السخونا
قال لي عمي “حاتم” مرة من فرط إعجابه بي: “آخ لو بيسوا يا أحمد كنت عطيتك واحدة من بناتي” وكان عنده اثنتان.
حين بلغت “رينيه” وهي من مواليد العام 1937، الثامنة عشرة عزمنا على الزواج، فقد عشنا حباً عفيفاً نظيفاً على مدى سنين خلت، ودقت ساعة الإرتباط. آخر موسم “الزريعة” حاسبت شريكي المزارع وسحبت بقراتي معي إلى برجا، فربما لا مقام لي في الجية بعد ذلك.
والدا “رينيه” لا يمانعان، ولكنهما لا يستطيعان المجاهرة برأيهما خوفاً من الملامة وكلام الناس، فأنا مسلم سني وهي مسيحية مارونية، ودون ذلك عقبات وموانع. وكان لا مفر من الإقدام، ففي ليلة من ليالي العام 1954 إصطحبت سائقاً برجاوياً، وقبل طلوع الفجر كنت أدقّ باب بيت حاتم في الجية بهدوء وثقة، فقد كان والداها يعلمان بخطتنا وتدبيرنا.
فتحت الباب وكانت قد أعدت للأمر عدته، وانطلقنا صعوداً إلى مسقى حارة البيدر في برجا. حين انتصف النهار كانت بلدة الجية تضج بالخبر ومثلها برجا. وقامت قيامة وجهاء الجية ورجالاتها مما حدث! وكان اجتماع يعقبه آخر، ولكن قضي الأمر واستقرت “رينيه” في برجا عزيزة مصونة، فقد كتبا “كتابهما” وصارا زوجين رسمياً.
(وممن اقترن بمسيحية قبله عام 1928 مصطفى إبراهيم بشاشة 1890- 1984 “جد الشيخ جمال” واسمها ماري إبراهيم القسيس 1909- 1981 كاثوليكية من قرية إقرت شمالي فلسطين، ومسجلة بالنفوس “مريم حسن الكجك”).
بعد يومين وصل عسكريان من الدولة إلى برجا يسألان عن بيت العروسين بإيعاز من رئيس الجمهورية آنذاك كميل نمر شمعون 1952- 1958، فلما وقفا على عتبة الدار أوضحا أنهما جاءا يستوضحان من “رينيه” فحسب: هل جاءت برضاها مع البرجاوي؟ عندما أجابت بـ نعم عادا أدراجهما إلى مخفر السعديات.
بعد أسبوع داهمت عمتها “خلايق حاتم” دارنا بالمنشر والعياط، حتى تجمعت نسوة الحارة حولها، واللاتي أومأتُ إليهن بأن لا يردوا عليها بالمثل فالتزمن الصمت واكتفين بمراقبتها. فتحت “طاقة” البيت فناولتني بكلامها “عالطالع والنازل”. مضت الأيام ورزق الزوجان بالبنين والبنات (أنور وخليل ومنير ومنى وسميرة وناديا وليلى ونهى) والصلة بينهما وبين بني حاتم في الجية مقطوعة، فلا سلام ولا كلام ولا مرسال.
في كل تلك الآونة كانا يتتبعان أي خبر من الجية، ويودان أن لو كان في مقدورهما زيارة الأقارب فيها وتفقد أحوالهم وإعادة المياه إلى مجراها ولكن!. يذكر أبو أنور أنه ماترك سانحة تصله ببيت عمه في الجية إلا واغتنمها. كلما تناهى إلى سمعه أن أحداً من برجا يعرفهم ويزورهم، قصده ليصل مابينه وبينهم.
الحاج “إبراهيم الأفندي” كانت له زريعة قرب بيت حاتم، وكانت أمه “الحنجولية” تتبضع مرة أو أكثر كل أسبوع من برجا، لها ولهم، فقد كانت سوقَ كل القرى المجاورة لها، فكان ينبه زوجته وبإصرار:
“يارينيه، خودي بالك، كل ما إجت “الحنجولية” ع الضيعة لازم تبعتي معها لإمك مصاري…”. في المشفى كان اللقاء مؤثراً! بالقبل والأحضان والدموع. مرضت أمها، واسمها “سعيدة نخلة”، فنقلوها إلى بيروت وكانت في حالة حرجة. طلبت رؤية ابنتها، وهي تظن أن شمس عمرها مالت على الغياب.
يقول الصهر: “مددت يدي إلى جيبي فسحبت منها ثلاثمئة ليرة لبنانية، وكان مبلغاً محترماً آنذاك ووضعته تحت مخدتها”. “برأت الحماة من علتها واستعادت نشاطها، فلما عادت إلى الجية كانت “تبعت ورانا كل يوم لنسهر سوا”. وكان الصلح والصلح خير.
عام 1976 كان عام شؤم على لبنان ونذير خراب وموت. إشتعل الوطن بأهله فكانوا وقوداً لحرب مقيتة وقذرة. الفتنة أحرقت بيروت وجبل لبنان. فصلت بين برجا والجية، ودارت رحى السوء بينهما.
أيام كانت كالحة السواد علينا جميعاً. الجية صارت خراباً وأهلها إخواننا هاموا إلى النواحي القريبة من ديارهم، إلى السعديات وجدرا.
يقول أبو أنور: هرعت إلى الساحل ويكاد القلق يقتلني، بعد أن اصطحبت “هشام نهار العبد الله” بسيارته، لما وصلتُ خُيّل إلي أن القيامة قد قامت! دخلت بيت عمي فما وجدت أحداً… الدخان يتصاعد من أبوابه وشبابيكه وشرفاته!. على أرض البيت لمحت سندات الملكية و”الحجج” الخاصة ببيت حاتم، فنفضت عنها ما اعتراها ووضعتها في جيبي. خرجت لا ألوي على شيء. في دربي سألت عن الناس وأقاربي فقيل لي إنهم يتجمعون أمام كنيسة جدرا. كلمح البصر وجدتني في ساحتها، وكانت الناس في مأساة وحيرة وخوف وهلع، لا أعادها الله على وطننا تلك الأيام البغيضة.
توسلت إلى مقاتل من برجا أن ينادي بين الجموع: “يابيت حاتم ياقرايب بو أنور شبو… وينكن؟ هياه ناطركن وجايا لعندكن ياخدكن”. ما أعظم اللقاء وإنسانية الإنسان! ركضوا جميعاً نحوي وكأن أرواحهم ردت إليهم. عدت بهم إلى داري في معبور برجا وكانوا يزيدون عن العشرين بين رجل وامرأة وطفل. خدمتهم بنفسي وبعيوني طيلة إقامتهم لدي. في حبه للبنان يقول أبو أنور:
بيّي عليي ما يوم جاني / من زغرْ سني هيك وصاني
خلّي الشيوخا تعانق رهبان / ولا يفرقو دياني عن دياني
نرجع لعهد جدودنا من زمان / لـ عاشو سوا في ظل السندياني
كلهن شهامي وعندهن وجدان/ وعن وصفهن عم يعجز لساني
وقلوب أنقى من زهر نيسان / يلي النحل من عطرها جاني
ألله خلقنا كلنا إخوان / حب الوطن تا يزيد إيماني