ذكريات عبرت… برجا، جب الغبرا
كتب أ. طه نور المعوش:
أتذكر السنين الخوالي فيرجع الصدى شريطاً طويلاً من الذكريات، ولعل الحافز العميق الذي يدفعني لأن أكتب في هذا المجال أن هذه الذكريات حفرت عميقاً في نفسي وخالطت تأملاتي وانطبعت في مخيلتي.
إني أركز في هذا البحث على المكان بوصفه المتسع الذي يمارس فيه الإنسان نشاطه وتفاعله مع أقرانه، ولا يخفى ما للمكان من أهمية في تأثيره على المرء، ومن هنا نرى عمق العلاقة بين الأرض والإنسان، الأرض التي ولد عليها، وارتبط بأهلها، وأصبح جزءاً منها.
أعود بالذاكرة إلى معالم وأطلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي تكاد أن تكون نقيضاً لما نعيشه اليوم. لقد تغيرت القواعد والموازين والتصرفات والوقائع السياسية والإجتماعية، وأصبحنا في حقبة جديدة من الزمان.
تمر أمامنا صور الماضي فيهتف بنا الشوق بعيداً إلى سن الطفولة والفتوة وتعبق أنفاس الحياة الزاخرة بالحيوية والحركة والإندفاع أيام الشباب، يوم كنا نمشي في طرقات الضيعة الترابية قبل أن يحل الإسمنت محل التراب. إني هائم دائماً بحب ضيعتي، مشتاق إلى أن أمشي بنفس الطرقات التي درجت على سلوكها، أن أشاهد حجارتها وأكماتها وتلالها.
أتذكر الفلاحين يفلحون الأرض ويزرعونها قمحاً، والنساء الكادحات في موسم الحصاد يجمعن أكوام القمح تمهيداً لنقلها إلى البيادر.
فمن حي المعبور الذي شهد على إطلالتنا على الحياة نشأت، ومازلت أحفظ بيوته الصغيرة المتواضعة، وأشجاره المتنوعة وخضرته الزاهية، وأحفظ مطلاته الجميلة على وادي سبلين والمعنية والبحر، وأحفظ ناسه الأحبة الأفاضل، الأقارب والجيران وأولاد العم.
إذن نعود إلى الماضي، ليس حباً به من أجل إنكار الحاضر، بل لتعزيز الإرتباط بالهوية والأرض والتراث ولاستشراف المستقبل، ذلك من دون معرفة ما جرى في الماضي لا يمكن الرؤية السليمة للمستقبل.
هذه هي أرضنا وضيعتنا وبلادنا تنادينا لكي نكتب عنها. هذا الشوق إلى التأريخ يغرينا أن نسجل ما مر معنا:
- صور خالدة مطبوعة محفورة في قلوبنا.
- مشاهد لا يمكن أن ننساها، ووقفات عز مع رجال كرام.
- شباب طموح عمل من أجل خدمة بلدته.
- نخبة من الرجال أصحاب المواهب المتنوعة والرؤية الفكرية والغنى العقلي، أصحاب الإرادة الفولاذية الذين عملوا في شتى المجالات.
- نساء من المدبرات الحانيات الحادبات على أولادهن وأزواجهن.
كل هذه اللوحات نرسمها بخيوط من حرير لأجيال المستقبل كي يتطلعوا على بعض المعالم الدارسة في ضيعتهم، وعلى سيرة السلف أين كان أجدادهم وكيف تصدوا لمشاكل الحياة وكيف جابهوا الصعاب ورسموا طريقهم في الحياة.
نكتب عن برجا: مواسم أفراحها وأتراحها وحكايات الأمل والرجاء فيها، الهموم والتحديات، الحب والوله والوجد والكبرياء والشجن، عن هذا العشق الذي لا يحد لها.
نكتب عن برجا لأن آباءنا وأجدادنا دفنوا فيها، ولأن أولادنا وأحفادنا سيواصلون الدرب فيها بعدنا.
نكتب عن الذخائر في الكلام، في الصناعة والزرع والضرع، عن كل ركن حائم فيها يمشي في جنباتها تحسساً وشعوراً وتفكيراً، عن وقفات العز والبطولة والشمم والتمسك بالأرض والهوية الوطنية والقومية، عن فرح العائدين إلى بلدتهم وحزن المغادرين المهاجرين، عن هذه اللوعة للنساء المودعات أحبابهن وفلذات أكبادهن.
هاهي العادات والقيم تتغير بشكل سريع وقد أثرت فيها الوسائل السمعية والبصرية وأجهزة المعلوماتية والخليوي وضربت الفردية جذورها العميقة في المجتمع، كل ذلك أثر في شخصية الفرد وعواطفه وغاياته وحاجاته وطرق تفكيره.
وهذه الكتابات هي نوع من التنفيس تخلق فينا بارقة أمل في نهوض بلادنا التي توالت عليها النكبات وعصرتها التضحيات وضيعتها الأحداث.
ومن باب المعرفة دخلت أسماء على مناطق برجا غير مألوفة لخبرة الأهالي الذين عاشوا فيها ردحاً من الزمن.
لذلك، لعل الذاكرة تحفظ وتسجل وتوثق هذه الأسماء كما هي واقعاً وحقيقة، ونبدأ أولاً من الرحلة إلى “جبّ الغبرة”.
“جب الغبرة” ورد إسمها في خرائط المساحة والسجل العقاري، وهي تقع في المنطقة الوسط بين قاطعي الحبيشية وزاروت، وهي تمتد على مساحة واسعة كان يميزها وجود أشجار الخروب والسنديان والعرن المتميز بأغصانه الشوكية بكثرة فيها، وكنت تجد أكثر من مراح للماعز وبئر لجمع المياه ذي الشكل الأسطواني.
في أيام العطل المدرسية كنت أقصد “جبّ الغبرة” عبر طريق رِجل تتلوى يمنة ويسرة حتى أصل إليها وأخترقها من وسطها حتى أصل إلى آخرها حيث ملعب بلدية برجا اليوم.
وكنت إذا ابتعدت عن “جبّ الغبرة” شدني الشوق إليها، وقد ألفت تربتها يا طيب رائحة المكان فيها ويا لروعة منبطحاتها التي تطل على السواقي.
وفي “جب الغبرة” كان يتواجد دائماً محيي الدين معروف رمضان يرعى الماعز، وهي مهنته التي أحبها وعمل من أجلها بكل جوارحه، وقد علمته حياة الطبيعة وجوها الهادىء بالإضافة إلى حضور النكتة، النظرة الثاقبة للأمور فقال لي :
1– إن منطقة “جب الغبرة” ستخترقها البيوت والسيارات في القريب العاج، ويتمنى أن لا يحصل ذلك أثناء حياته.
2– إن خيبة أمله في الجيل الطالع واسعة، وهو يرى فيه حالة من ضياع الهوية والتاريخ وهو خاضع للإستلاب الفكري والمعنوي.
3– إن نمط الحياة في المجتمع الذي نعيش فيه سيتغير ولا يرى حالياً ومستقبلاً سوى ظهور مجتمع إستهلاكي، يستهلك ما ينتجه الآخرون وستغيب المؤسسات الإنتاجية التي هي الأساس في ازدهار الأوطان.
4– إنه يتذكر دائماً أيام شبابه، يوم كان بائعاً متجولاً للقماش في فلسطين ويتحسر على ضياعها وعلى تقسيم بلاد الشام، وعنده أنه من الناحية الجغرافية لا يجوز تقسيم سوريا الطبيعية.
5– الزعيم جمال عبد الناصر كان محط آماله، ولكنه لم يوفق للهجمة الشرسة التي تعرض لها من الأعداء.
6– إنه لا يرى في الأنظمة الحالية سوى أنها تابعة للغرب ويمثل حكامها الأنانية والإستبداد ولا يرى أملاً في تحرير فلسطين على المدى القريب والمتوسط.
ولا يكتمل الحديث عن محيي الدين معروف رمضان من دون ذكر زوجته الشيخة خديجة البراج، المرأة الفاضلة والعاملة بامتياز والحاضرة اجتماعياً في كل مناسبة.
هي واحدة من نساء ضيعتي لا يغبن عن البال والشاهد أني كنت ألمح طيفها صباحاً ومساء بوجهها المشرق متنقلة سيراً على الأقدام من بيتها في حارة الساحة إلى “جب الغبرة” لمساعدة زوجها في تنظيف المراح وحلب الماعز وما تأخرت يوماً ولا شكت، بل كانت مثالاً للصبر والتفاني وعزة النفس.
كانت جلساتها مع والدتي الحاجة كريمة علي السيد في خلة الريحانة متسقة، حيث بيتنا الوحيد في تلك الناحية. لقد جمعتها مع والدتي بالإضافة إلى صلة القرابة طينة من عجينة مختلفة، ملامحها الوفاء والعطف وجمال الطلة ورقة الأنوثة وعلو المقام.
وقد تشعب الحديث بينهما دائماً عن : تدبير المنزل والإهتمام به وعن تربية الأولاد وتدريبهم على الأخلاق الحسنة والعمل الصالح، عن جميع أوجه العمل والنشاط وحكايات الضيعة وحوادثها، عن الشباب والصبايا وكل شيء يخطر على البال.
لقد كانت “جب الغبرة” بكاملها ملكاً لآل البراج، وقد تعرضت للرهن العقاري وتحولت أرضها إلى شركة عقارية تم فرزها بأسماء مالكين من بيروت والجنوب… واليوم أقطع “جب الغبرة” بالسيارة فأرى حضارة للباطون ظاهرة وملكية للطوابق والشقق إختلط فيها الحابل بالنابل وقد اختفت ويا للأسف الأشجار الخضراء منها.
عن “برجا الجريدة” العدد الثالث تموز 2018