من القرية… إلى المدينة، بحث في علاقة الإنسان بمنزله
كتب د . سهيل منيمنة:
برجا العريقة الأصيلة، بلدة والدتي “زكية عبد الله دمج” رحمها الله، بلدة لا تفارق مخيلتي وذاكرتي منذ أن كنت في سن الطفولة، كانت بلدة صغيرة، أهلها أشداء أوفياء، وكم كنت أتساءل في ذلك الوقت : لماذا يغادر البعض بيوتهم البسيطة الهادئة الجميلة التي تحتضنها بساتين الزيتون وربوع الرياحين للانتقال إلى المدينة بكل ما فيها من صخب وتوتر وركض لا ينتهي؟ وهل هناك علاقة بين الإنسان والبناء الذي يعيش فيه؟.
كانت برجا قديماً، كما أخبرني صاحبي الشيخ جمال بشاشة مؤخراً، قرية مقسمة إلى ثلاثة أحياء: حي الجامع، وحي البيدر، وحي العين. وليس غريباً أن يكون جامع برجا الكبير هو مركز إنتشار ما بني حوله من عمران ومساكن وأسواق وغير ذلك، فالمسجد هو نواة المجتمعات لما كان له من دور إجتماعي وثقافي وسياسي وإقتصادي وعسكري وحضاري ناهيك عن رسالته الأولى كصرح ديني.
يقول الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون Gustave Lebon في كتابه القيم “حضارة العرب: “المسجد هو مركز الحياة الحقيقي عند العرب. لم يكن الباعث على بناء المساجد في صدر الإسلام مقصوراً على الأغراض الدينية وحدها، بل يرجع إلى أسباب سياسية واجتماعية… تستخدم منذ ظهور الإسلام لإجتماع المسلمين فيها… ولما لم يكن الفصل بين السياسة والدين ممكناً، أصبح المسجد المكان الذي تذاع منه الأخبار الهامة التي تتعلق بالصالح العام”.
أما عن دور جامع برجا القديم فقد أسهب وأجاد إمامه الحالي الشيخ بشاشة في توثيق دوره في تاريخ البلدة وذلك في كتابه الماتع “جامع برجا الكبير، تاريخ يتجدد”.
كانت معظم البيوت التقليدية البرجاوية وإلى بداية الستينيات من القرن الماضي تتميز بالبساطة مع اتساع الغرف وضرورة وجود حديقة و”سطيحة” و”علّية” تظللها عرائش العنب خاصة على واجهاتها الشمالية والغربية، مما يبعث في النفس الهدوء والطمأنينة بعد يوم عمل شاق في الزراعة أو في معامل الحياكة التي كان نتاجها الأكثر شهرة في لبنان. وهنا نرجع إلى السؤال المطروح في أول البحث “هل هناك علاقة بين الإنسان والبناء الذي يعيش فيه”؟.
هذه الظاهرة ليست وليدة الحداثة والتطور العمراني الكبير الذي شهدته برجا وتحولت خلاله من قرية إلى مدينة عامرة، فعلاقة الإنسان بالبناء كانت إحدى نقاط مناقشات مجالس الفلاسفة اليونان قديماً، ومما وصلنا منها مقولة أبقراط الذي ذكر فيها أن انتقال الناس من منطقة إلى منطقة لم يكن في صالح الفرد من الناحية الصحية والنفسية وربما أدى إلى تدميره، وتم ربط هذه الظاهرة بعدم تحمل الإنسان لبيئته الجديدة إن كان من خلال ما يراه ببصره، أو من خلال مأكله ومشربه وطريقة عيشه. ويمكننا القول إن هذه المراقبة استمرت عند المتخصصين إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ونشير هنا إلى أهمية الروابط العائلية في المنزل التقليدي اللبناني الذي كان يتسم بالفردية والجماعية في آن معاً.
كتب صاحبنا المؤرخ عبد اللطيف فاخوري في “منزول بيروت”: “… الفردية داخل البيت بما يحفظ حرمته وخصوصية ساكنيه، والجماعية خارجه، من حيث الإنسجام مع الأبنية المجاورة والملاصقة”. وأضاف: “يمكن ملاحظة التناسق بين العائلة والبيت والمدينة. فالمدينة يحدها سور تقفل أبوابه مساءً، والبيت مقفل على الخارج لا ينبىء مظهره عن داخله. والعائلة تتوزع الغرف وتشترك في المنافع العامة له بعيداً عن أعين الغرباء، يتحرك أفرادها ويتنقلون ويمشون فيه بكل راحة وطمأنينة. إذا أمطرت جلسوا تحت القسم المسقوف من أرض الدار ـ الفسحة السماوية ـ وإذا اعتدل الحر جلسوا حول البركة في وسط الفسحة المذكورة. فإذا اشتد الحر صيفاً صعدوا إلى العلّيات وسهروا وتمتعوا بالهواء الغربي الذي وصفوه بالحنون وغنوا له: يا رب يدوّر غربي تيرجع حبيب قلبي”. وما كتبه المؤرخ عن بيروت ينطبق على برجا مع بعض الاختلاف البسيط.
ومن الملاحظ أن العمران التقليدي كان يتناسب مع البيئة الاقتصادية والاجتماعية عند أي شعب من الشعوب، فالرومان على سبيل المثال كانوا يعكسون في عمارتهم منطق القوة ورغد العيش، بينما اتجه اليونانيون الى إظهار الأناقة والترتيب. وقد وصلت الدراسات المتعمقة في هذه الناحية إلى خلاصة مفادها أن علاقة الإنسان بالبناء تشبه إلى حد بعيد العلاقة بين الإنسان والإنسان. بمعنى أن الفرد عندما ينظر إلى البناء يستشعر ويرى مكانه في المجتمع المحيط به من خلال تواصله الدائم مع ما يراه ويشعر به.
وهناك نوعان من التواصل: الأول “من… إلى” (من الداخل للخارج)، والثاني “إلى… من” (من الخارج للداخل). أما النوع الأول (من الداخل إلى الخارج) فتتدخل فيه العواطف إلى حد بعيد، وهنا يجب عدم الخلط بين العواطف والأحاسيس أو الشعور، فعند الإنسان أربعة عواطف طبيعية تولد معه هي الفرح، والحزن، والخوف، والغضب. أما المكتسبة فتشمل الحياء والشعور بالذنب على سبيل المثال. أما التواصل “من الخارج إلى الداخل” فيتجلى أكثر ما يتجلى في شعور الإنسان بأن يقبله مجتمعه كما هو.
ولتوضيح هذا الأمر أكثر يمكننا دراسة ومتابعة انتقال البرجاوي مثلاً من بلدته إلى بيروت بهدف تحسين أحواله الاجتماعية التي لم تكن لتوجد أصلاً إلا نتيجة نوع مكتسب من الفراغ ربما سبب نوع من العزلة على الرغم من تفوق المرتحل في عمله وتجارته كما هي الحال مع أكثر من استقر في بيروت من البرجاويين الذين أعرفهم.
ولا أشك أن هذا الشعور صاحب خالي الحاج أبو عبد الله سليم دمج الذي كان مثالاً يحتذى به في المثابرة والمكافحة والنجاح المهني، وقد أقام بضعة سنوات قبل وفاته في منزله ببرجا يعتني بحديقته ويجلس على “السطيحة” المطلة على البحر مبتسماً كأنه ملك الدنيا وما فيها، شعور لا تعرفه ذريته الذين صاروا جزءاً من المجتمع المديني، رحمه الله تعالى.
عن “برجا الجريدة” العدد الثالث تموز 2018