شيبان ميّت حيّ
كتب أ. محمود عبد القادر سعيفان:
ألآن تعود بي الذاكرة إلى عقود خلت، يوم كانت الدروب في بلدي حكايات، وساحاتها حلقات للرقص والدبكة، وبيوتها أندية ومنابر، والشرفات زغاريد وهتافات.
كنا نعيش أمسيات حالمة، يصول فيها الشاطر حسن، وأبو علي الصياد، والزير وعنتر، كما كنا نقرأ الكثير من الروايات في السهرات التي تتحول إلى مجالس علم ومدارس.
خاطرة واحدة أو باقة شعر أود نشر أريجها في هذه العجالة، فالزجل كانت له حصة الأسد في الأفراح والأعراس وسائر المناسبات.
ذات مساء شنّفت أذني قهقهاتُ الصنوج (وهو مايجعل في إطار الدف من الدوائر النحاسية) من منزل جارنا أحمد عبد السلام السيد (المحترم) ليلة عرسه عام 1952، يوم كان حسن الجوار من أرقى السجايا والشيم في مجتمعنا البرجاوي، الذي كان ولا يزال يتمتع بالطيبة والمحبة ومكارم الأخلاق.
إنها حفلة زجل عامرة يشارك فيها شيبان يونس الشمعة وأمين سعيد رمضان والبعض من هواة الميجانا والعتابا.
كان لي من العمر يومها ست عشرة سنة تقريباً، وتحظر علينا التربية الصحيحة الخروج من المنازل ليلاً. إستأذنت أبي فسمح لي بالذهاب لحضور المبارزة بين الشاعرين المذكورين، وتبين لي أن موضوعها الموت والحياة.
كان شيبان يخاطب أمين قائلاً:
جوقه عْملنا وِدخلت معنا شْريك وْ ع منبري قبلتك تغني مَلْو فيك
شيبان لما يموت بيموتِ الزجل وْبتموت إنت وْ ماحدا بْيهتم فيك
وبصورة لا إرادية أجبته مدافعاً عن أمين :
صارعتْ أسْد الكائني وآفاتْها كْشفت الحياة عْرفت شو لذّاتها
حَيرتني بالموت كيف بدو يكون وْموتّك موتة أمين بذاتها
شيبان:
محمود يا محمود إمشي ع الهدا رحْ موّتك وتضيع أتعابك سدى
وْبكرا عند ما قيامة العالم تقومْ مدفون رح بتضل ع طول المدى
محمود:
للمعنى عملت من فكري جهازْ وْبالصف أعطوني علامةْ امتياز
انْ موّتني ودفنتني بْأرض الوطن بْرفقة نبينا بْقوم من أرض الحجاز
أمين مخاطباً شيبان:
شيبان ميّت حيّ مابدها كلام ولما أمين يموت باقي ع الدوام
“شمعتك” بتدوب إن ضوّيتها وْ “رُمضان” بيضوي علينا كل عام
وعندما انتهت السهرة وهم البعض بالإنصراف كان شيبان لا يزال يحتسي فنجاناً من القهوة فقال:
لاتفلوا ياجيراني روحي فيكم وِلهاني
بعدا الساعه عشره ونص دْجاج الضيعه سهراني
فأجبته قائلاً:
قوم تْسطّح ياشيبان حاجي تبصّر بالفنجان
بطّل فنجانك مِليان وْبطلنا نعد صواني
عند ذلك دنا شيبان وهمس في أذن شقيقي خالد قائلاً: “خيّك بيطلع منو، شاعر كبير. أنا مفكرو بيكتب ع الورق بس، تاري أقوى منا بالإرتجال”.
عن “برجا الجريدة” العدد الثالث تموز 2018