ساحة العين… داون تاون برجا
كتب أ. عمر جميل الخطيب:
ليس غريباً على هذه الساحة أن تزدان بالألوان… بوركت هذه الألوان الصارخة التي تبهر الأنظار والمذيلة بتوقيع فنان تشكيلي معاصر من برجا. إنه نبيل سعد.
لقد تأخرنا كثيراً لنجعل هذه الساحة مشعة بألوان تجعلها لوحة زاهية تحاكي قوس قزح.
بورك صاحب هذه الفكرة والذي طبقها بفعل إيمان الشيخ جمال بشاشة بأن ساحة العين هي قلب برجا، وقد أسميتها “داون تاون” برجا، لتخفف عن نواظرنا صورة النفايات المتراكمة داخل البلدة والمجمّعة على أطرافها، وصورة المداخن التي تنفث الغبار عن المعامل والمحطات والكسارات والزفاتات التي تحاصر برجا المنكوبة، نعم المنكوبة.
تسللت بعد أن شق الفجر خيوط الظلام ووقفت وسط الساحة منبهراً بألوان جميلة أضفت حسناً وبشاشةً على بيوتها ودكاكينها.
ورحت أتفحص زواياها وأبنيتها المحيطة بها.
لقد علمت علم اليقين أن هذه الساحة التي تضم نبعة المياه، التي أحيت أهالينا، وتمايلت صبايانا بجرارهن التي حاكت حكايات عشق بريء مطرز بالحشمة والوقار، عبّ منها أجدادنا وآباؤنا فروَت عروقاً تفيض دماً ينبض بالحب والوفاء لبرجا الحبيبة. وكيف لا ونبعة الماء تمثل ترياق الحياة رغم معاناة أخواتنا وأمهاتنا في نقل مياه العين إلى بيوتنا.
وقفت في وسطها وعاينت عماراتها، والتي تعود بمعظمها لأغنى عائلات برجا قديماً. نظرت شمالاً حيث الطريق التي توصل إلى البلدة وعلى جنبيها عقاران كبيران لآل الخطيب، وبعدهما عقاران متواجهان لآل البراج، وبالجانب الغربي يمتد الزقزوق صعوداً والذي كان يعتبر السوق الرئيسية التي تضم الدكاكين.
كان في أول الزقزوق مقهى وبعده ملحمة أبي حسين رمضان، يقابلها دكان درويش البراج (الباشا) والملاصق للخياط سليم سعيفان (لبيبة) الذي كان يعاني من صراخ البائعات الأرامل ومناداتهن لشراء الخضار.
هذا الصراخ الذي كان يشجع المضاربة بين علي البراج وأمين الشمعة (الإش).
وكم عمل آباؤنا جاهدين لوقف إطلاق النار بينهما.
وينتهي الزقزوق برأس يتوّجُه جامع برجا الكبير.
أما إذا اتجهنا من مقهى محمد سليم البراج فسنجد بناية الحاج محمد الزعرت التي تفصلها طريق ضيق بدرجات معدودة عنها، هذه البناية التي جمع منها ثروته بفضل مطحنة كانت الوحيدة التي تقبض على مفاصل الغذاء من طحين وبرغل وأرز أيام الحرب الكونية الأولى.
لقد شغلني وجود بيتين ملاصقين للساحة، هما: بيت آل إدريس وبيت آل زين.
رحت أسأل عن سبب ذلك إلى أن علمت بأن الجد إدريس كان ثرياً بحكم تجارته وشطارته، وقد ابتلاه الله بخلفته فلم يسلم له ولد، فنذر لله إن سلم له ولد فسيهب الدور الأرضي من داره إلى وقف البلدة وهكذا كان.
أما دار بني زين فقد كان الجد يوسف زين يعلم الأولاد القراءة والكتابة تحت شجرة الميسة على قطعة أرض خاصة بالشيخ عمر أفندي الخطيب، وعندما نجح عضواً في مجلس متصرفية جبل لبنان، لم يهن عليه أن يتعلم أبناؤنا في العراء، فوهبه البيت الملاصق لعقاره.
على جانب هذا العقار تمتد الطريق لتصل صعوداً إلى حارتيْ الجامع الكبير والجرن.
وقد اختار عمر أفندي الخطيب عقاراً جوار جامع برجا الكبير ليبني عليه دارته التي سميت بـ “حارة الأفندي” والذي شوهه زلزال العام 1956 والمحاولات جادة لترميمه دون نتيجة تذكر من قبل مديرية الآثار.
ساحة العين كانت تجمع أهالي برجا، الذين كانوا يتناثرون على المقاهي في جنباتها، وأهمها : مقاهي محمد درويش الغوش (حوّا) وإبراهيم الخطيب ومحيي الدين الطحش ومحمد سليم البراج ومحمود شبو (العدّان) وسعد الدين دمج (أبو غالب) وبعيداً عنها جميعاً مقهى محمد عبد السلام سعد.
كانت هذه المقاهي متلاصقة ومتقابلة حتى قيل في برجا (بين القهوة والقهوة قهوة)، فقد كانت الساحة ملتقى لهم، منها ينطلقون لأعمالهم وخاصة الباعة المتجولون، وفيها كانوا يتحلقون خارج المقاهي يتحدثون ويتسامرون.
واحد من هؤلاء الرواد واسمه مصباح كانت تنتابه نوبات عصبية من الجنون، وفي يوم كان فيه الرواد يتجمعون قبل انطلاقهم نحو أعمالهم، قام مصباح هذا بالدوران أمامهم وعندما يصل أمام الأستاذ سعد يقوم بصفعه عنوة ويتابع دورانه إلى أن يصل إليه ثانية فيصفعه من جديد دون غيره.
وبعد أن كرر الصفعة أربع مرات والأستاذ سعد يتحمله تقديراً لحالته، وصل في المرة الخامسة فأمسكه بيده قائلاً له : مصباح بدّي وصل.
هو قصد بأنه يريد أن يبرز له الوصل في المرة التي بعدها ليقوم بالإنتقال إلى صفع غيره.
وأذكر أن صاحب مقهى وكان يدعي المعرفة بكل شيء، وكان يتدخل عند سماعه لأي مقولة مهما كانت صعبة ومعقدة ! ذات يوم سمع أحدهم يقول: هل سمعتم بخبر أذاعته الراديو بأن “ألدومورو” رئيس وزراء إيطاليا المخطوف عام 1978 وجدت جثته في صندوق سيارة في أحد شوارع روما؟ فما كان من صاحب المقهى إلا أن سارع بالتعليق قائلاً: “عليي الطلاق ما لح يخلّو سني بإيطاليا”! متوهماً بأن كل رئيس وزراء في دول العالم يكون سنياً كما في لبنان.
ساحة العين في برجا كانت المنزل الكبير للبرجاويين، كانت ملتقى أفراحهم وأحزانهم، فيها يحتفلون ويقيمون المهرجانات. مازالت صورة القارىء مصطفى إسماعيل عام 1963 جلية في ناظري، عندما تربع على كنبة في مقهى محمد سليم البراج، مشرفة على الساحة، والتي ضاقت بالمنصتين للقرآن الكريم ماعدا أبا سعد رمضان التى أخذ بتلاوة الشيخ بعد تلاوته سورة الرحمن ووصلها بالتين والزيتون، فصرخ: “ألله أكبر، لك يعيش مصطفى إسماعيل وبدو يحرق الأخضرين”! مما حدا بالشيخ لسؤاله “يعني أيه الأخضرين”؟ فأجابه أبو سعد: “يعني التين والزيتون ياحضرة الشيخ”. فارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وتابع تلاوته إلى أن قال: “وهذا البلد الأمين” فقال له أحدهم: “مين البلد الأمين يابو سعد” ؟ فأجاب: “ولو، البلد الأمين يعني برجا”. هكذا كان البرجاوي سريع البديهة، يتمتع بروح مرحة وذكاء خارق، شهد له بذلك الشيخ مصطفى إسماعيل عندما سمّى أبا سعد بالبخاريّ.
ومن ساحة العين كان الأهالي ينفذون إلى تحت الشير، الذي يوصلهم إلى مدافن البلدة. ومن نبع الساحة كان الفائض من مياهها يمر بما يسمى “القنا” الذي يخترقها إلى أن وصل إلى منحدر الخندق المقابل لحي الحمرا. وقد وثقت بناء جسر فوق مجرى المياه هذا عندما فتحت طريق للعربات تصل بلدة الجية ببرجا.
هذا الجسر الذي شيد فوق قناطر مازالت مدفونة تحت الأرض عند مدخل ساحة العين، بهمة الشيخ عمر أفندي الخطيب على أن يتحمل تكاليف بنائه أهالي البلدة عن طريق فرض نصف ريال مجيدي على كل درهم مساحة من جميع الأملاك الممسوحة بدفتر قريتهم وعلى كل مكلف ريال ونصف مجيدي ويصير جمع ذلك بهمة إمام وشيخ ومختار ووجهاء البلدة وتوريده لصندوق المتصرفية بوجه الأمانة ليصرف لمن يلزم عند الإقتضاء.
وقدر رست المقاولة في بناء الجسر قرب العين على المعلم عبده أيوب سماحة، وعلى أن يكون بناء حيطانه من الحجر المقصوب بالكلس والرمل ومؤسساً على منحرفين وبارتفاع مترين وعرض مترين بطول ثمانية أمتار وأن يتم العمار مع المونّس اللازم في مدى خمسة عشر يوماً ببدل ألفي غرش تدفع تدريجياً بحسب سريان الشغل، على أن يكون الشيخ رشيد عمر الخطيب مناظراً على العمل حتى نهايته.
وقد أرفقت بمقالتي هنا وثيقتين، الأولى عن كيفية شق طريق العربات في كانون الثاني عام 1900، والثانية عن بناء الجسر بتاريخ العاشر من شباط عام 1902، وفي هاتين الوثيقتين يذكر أنه في برجا قومسيون بلدي متفاهم حول المصلحة العامة البرجاوية، ويظهر فيهما مدى شفافية ومصداقية من كان يقوم بتنفيذ المشاريع العمرانية لبرجا منذ مئة وثمانية عشر عاماً.