غمزة تُطيح بأول سينما في برجا!
غروب كل يوم كان صوت المغنية يصدح على بيادر حارة العين: “ميّل يا غزيّل ويا غزيّل ميّل”.
نداء الفنانة نجاح سلام كان توطئة للعرض الأول في “سينما رمزي” ببرجا الشوف، وإيذاناً للشباب لكي يبدأوا بالتجمع أمام الصالة وللمسارعة بشراء بطاقات الدخول.
كان ذلك في العام 1960، واعتبر حدثاً ثقافياً بارزاً، كان له صدى واسع في أرجاء الضيعة.
رمزي صلاح الخطيب مواليد 1924 هو الشاب الذي أطلق هذا الحدث الفني. كان ذا شخصية جاذبة، ملامحه أوروبية، صاحب طلة محببة، يمتاز بقوة البنية، مبادر ومقدام، جده الشيخ كامل الخطيب مختار برجا ورئيس بلديتها إبان الحرب الكونية الأولى.
كان رمزي مولعاً بكل جديد، وقد استهوته المدينة بفنونها وما وصل إليها من اختراعات حديثة، فأسس في بلدته السينما الأولى في تاريخها، في الطابق الأرضي من دار محمد خضر رمضان والتي يشغلها اليوم الحاج خالد أحمد دمج “العطعوط”، وكانت من قبل مركزاً لمصلحة التعمير التي أنشئت إثر زلزال شتاء العام 1956 لمساعدة المتضررين وترأسها إميل البستاني.
أول فيلم عرض في “سينما رمزي” كان “رصيف نمرة 5” من بطولة فريد شوقي وهدى سلطان وزكي رستم ومحمود المليجي ومن إخراج نيازي مصطفى.
الفيلم كان قد عرض لأول مرة في شباط عام 1956 بالقاهرة، وهو مليء بالإثارة والتشويق وتدور قصته مع شاويش من خفر السواحل ومغامراته ضد عصابات تهريب المخدرات.
جمهور الصالة والذي كان يزيد عن خمسين شاباً: يتفاعل بحماسة بالغة مع أحداث الفيلم : حينما يتسلل الشاويش فريد شوقي يحبس الشباب أنفاسهم ويخيم الصمت… حينما يُقدم يريد الإجهاز على عناصر العصابة تعلو الأصوات : “حطّلهن” و “طقّو وألله لا يردّو” ويسود الهياج والزعيق والصفير، نصرة له وتشجيعاً على أعدائه… إلى أن يهدأ الجوّ عند أي موقف غرامي في الفيلم، إلى أن يحلو الوقت على أنغام أغنية من هدى سلطان.
يخرج المشاهدون من الصالة وقد أسرتهم قصة الفيلم فيتابعون الحديث عنها في سهرات المساطب والسطوح.
كان رمزي يستأجر أفلامه في بيروت، وكان العرض يتواصل يومياً بمعدل فيلمين كل يوم. يبدا العرض الأول بعد الغروب مباشرة.
ثمن بطاقة الدخول تراوح مابين عشرة قروش للفتيان، وللكبار ربع ليرة، فيما ترتفع في الأعياد والمناسبات ويقتصر الحضور على فئة الذكور.
كانت قاعة “سينما رمزي” ومنذ انطلاقتها متواضعة، تتألف من مقاعد تتألف من كراسي خيزران ومن القش، وشاشة بسيطة وآلة عرض قديمة، فيما الأفلام هي من “بَكَر” وقد قدمت روائع الأفلام المصرية إضافة إلى أفلام الكاراتيه.
كان رمزي يروج لأفلام سينماه بطريقة تقليدية عبر أسلوب المناداة، حيث كان يكلف الشاب “محيي الدين” بالدعوة لعروضه على الطريق العام الممتد من بيت كمال الخطيب إلى دار أنيس بكري وبتركيز قدّام الصالة.
من طرائف محيي الدين هذا، أن السينما كانت ستعرض فيلم “الهاربة” إنتاج العام 1958 ومن بطولة شادية وشكري سرحان وزكي رستم وعبد المنعم إبراهيم ومن إخراج حسن رمزي… محيي الدين يقف على ناصية الطريق على بيادر حارة العين ويأخذ ينادي بأعلى صوته : يلا ياشباب، يلا هيّو حالكن بدو يبلش فيلم الهربانه !
مع الأيام بدأ حماس رمزي يفتر شيئاً فشيئاً، فباعها لشابين برجاويين، ولكنهما ما استمرا إلا قليلاً في إدارة السينما، حيث أخذ عدد المشاهدين يتناقص والإقبال عليها يتراجع، حين لم يعد عدد الشباب يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولم يعد عائد البطاقات مكافئاً للوقود الذي يشغلها.
ولما بدأت الخسارة تلوح وما عاد الأمر يحتمل كل يوم، وقبل العرض المقرر ليلة الإقفال، إفتعل الشريكان بغمزة من أحدهما “مشكلاً” فيما بينهما، ودار الخبيط واللبيط بالكراسي أمام الحضور، الذي ولى هارباً خارج الصالة.
غمزة من الفنانة سميرة توفيق أغلقت أول صالة للسينما في السعودية عام 1950، وغمزة من شريك عام 1960 أطاحت بأول سينما في برجا الشوف.
عن “برجا الجريدة” العدد الثالث تموز 2018