برجا بين جيلين
كتب الأستاذ عمر جميل الخطيب*:
رسالة من إبنة أخي أ. بسمة أحمد الخطيب جعلتني أتذكر كيف كنا وكيف أصبحنا.
وهذه الرسالة أنقلها لكم وهي تصور ماضيَنا المشبع بالفضائل والمبلل بدموع العوز والمفاخر بعادات وتقاليد أوصلت الكثير من جيلنا القديم إلى أعلى مراتب العلم والمعرفة وإلى قمّة الفخامة أيام الإبتدائيّة (السرتيفيكا). وتضيف: كنا إذا طلب منا أستاذنا أن نوصل الطباشير أو الأوراق إلى صفّ آخر، كنّا ندخل الصف قدامَ الطلبة ونحسّ بأنّنا مبعوثون من الأمم المتحدة. هل تدرون من نحن؟ نحن الطيبون.
نحن جيل المشي إلى المدرسة ذهاباً وإياباً (في عزّ الشمس صيفاً وفي البرد والمطر شتاءً) طوال التسعة أشهر (سنة دراسيّة كاملة).
جيل اختيار المنهج الكامل من الجلاد إلى الجلاد… لا ملازم ولا مدرّس خصوصيّ ولا خيارات، جيل “أكتب القطعة 10 مرات” وحلّ المسائل على اللوح أمام الطلبة.
نحن جيل لا ينهار نفسياً من عصا المعلم، ولم يتأزّم عاطفياً من ظروف العائلة، ولم تتعلّق قلوبنا بالتّفاهات.
نحن جيل لم ندخل مدارسنا بهواتفنا الجوّالة، ولم نتذمّر من كثافة المناهج الدراسيّة ولا حجم الحقائب المدرسيّة ولا كثرة الواجبات المنزليّة.
نحن جيل لم يستذكر لنا أولياءُ أمورنا دروسَنا، ولم يكتبوا لنا واجباتِنا المدرسيّة، وكنا ننجح بدون دروس تقوية وكثيراً ما نتفوّق.
نحن جيل لم نرقص على أغاني السُّخف وكنّا نقبّل المصحفَ عند فتحه وعند إغلاقه ونرفع فتات الخبز من الأرض بعد تقبيلها ووضعها على جباهنا تقديراً للنعمة رغم الكفاف والعوز.
نحن جيل كنّا نلاحق بعضنا ونتسابق في فيّ الطرقات الضيقة بأمان ولم نخشَ مفاجآت الطريق، ولم يعترض طريقنا لصّ ولا مجرم ولا محبحب ولا خائن وطن.
نحن جيل كنّا ننام عند انطفاء القناديل في فناء المنزل ونتحدث كثيراً، ونتسامر كثيراً، ونضحك كثيراً، وننظر إلى السماء بفرح ونعدّ النجوم حتى نغفو.
نحن جيل تربينا على المحبّة والتسامح والصفح نبيت وننسى زلّات وهفوات بعضنا.
نحن جيل كان للوالدين في داخلنا هيبة، وللمعلم هيبة، وللشرطي هيبة، وكنا نحترم سابع جار ونتقاسم مع الصديق المصروف والأسرار واللقمة المغمسة بالتعب والبؤس والعرق.
برجا بين الماضي والحاضر:
هذه الرسالة جعلت وطأة الحاضر تشتدّ عليّ، فلجأتُ مستنجداً بذكريات الماضي الغابر ورحت أستعرض شريطه الطويل الملوّن بشتّى صور العُمر لتلوح في خاطري صورة ذاك اليوم الذي كنّا نسميه “الأول والثاني” وألمح خادمَ المدرسة “أبا رشيد” وهو يحمل (تكّاية) رُصعت بأبهى النياشين ينتظر مجيء المدير الأستاذ محمد علي دمج بهامته المعهودة وبهالة همّته المتوقّدة، ذلك الحضور الذي يضفي هيبة تجعل التلاميذ لا ينبسون ببنت شفة.
كان يحمل في يديه رزمة من الأوراق أدرج عليها أسماء التلاميذ المتفوّقين والأوائل من كلّ صفّ ليعلن الأوّل والثاني لينالا حصّتهما من التصفيق بعدها يضع النيشان على صدر كلٍّ منهما.
إنّه مهرجان تكريم الأوائل: التلامذة يصطفّون والأهالي ينتظرون بوَجَل نتيجة أولادهم والأساتذة يقفون كلٌّ أمام الصفّ الذي يعلّمه، إنّه مهرجان حقيقيّ يختلف كثيراً بمضمونه ومحتواه عن مهرجاناتنا في هذه الأيّام.
وأذكر كيف كان التلميذ، الثاني في صفّه يجهش بالبكاء لأنّه لم ينل نيشان المرتبة الأولى، منتظراً العقاب واللوم من أهله وذويه.
وأعود لحاضرنا لتظهر أمام ناظريَّ صورةُ التلميذ الأخير في صفه (الطُّش) وهو يزقزق فرحاً ممزّقاً بطاقة علاماته أمام أبويه وإخوته وأخواته طالباً من أبيه ثمن تشريج جهازه الخليويّ!
ثم أعود لأتذكّر “الوكيل” أيام العطلة فقد كان شبحاً يخيّم على ساحة العين والزقزوق والشارع، ذلك التّحري البارع الذي يراقب ويسجّل أسماء من يراه دون أن يرقبه أحد وكان يسميه المدير “العصفورة” التي تزوّده بأسماء المخالفين الذين سينالون عقابهم على الرّيق صبيحة اليوم التالي بواسطة “الطّبشة” التي كانت تبطش بأيدينا وأرجلنا دون أذيّة تذكر.
أما اليوم فلا رقيب ولا حسيب ولا وكيل والسّاحة تعجّ بالتلاميذ على مرآى من المدير والأساتذة على السواء بل وكادت تنعكس الآية.
أتذكّر كيف كان ولي أمر التلميذ يأتي إلى المدرسة ليقرّ ويعترف بتقصير ابنه ولا يجادل فيما يقول أستاذه ويختصر الكلام بقوله على مسمع من المدير والأساتذة ” لكم لحمُ ابني ولي عظْمُه”. كم كان هذا التفويض عظيماً وكم كانت فائدته عظيمة أيضاً.
أمّا اليوم فقد ضاعت العظمة من أغلبية أولياء أمور التلاميذ الذين يدافعون عن أولادهم متمسّكين بالقول “انصروا أبناءكم ظالمين أو مظلومين”، فالحقّ دائماً معهم وممنوع على الإدارة أو الأساتذة اتخاذ أيّ اجراء بحقهم يعيدهم إلى الصواب حتى أصبح ممنوعاً على الأساتذة أن يصرخوا بوجه تلامذتهم، فإن حصل ذلك فمنظمة حقوق الطفل جاهزة لتلقي الشكاوى والمعالجة على شاشات التلفزيون، وربما تصل إلى محكمة لاهاي الدولية، وهذا مما جعل وزير التربية مضطراً لمعاقبة الأساتذة بالتحويل إلى المجلس التأديبي وإعفاء المدير من مهماته، كلّ ذلك دون إجراء التحقيق اللازم لتبيان ما حصل وإظهار الحقيقة.
هذا كلّه ذهب بهالة الإدارة والأستاذ وأعطى التلميذ حريّة المعاندة وعدم إتمام واجباته المدرسيّة، فقد أصبح لحم التلميذ وعظمه لوليّ أمره فقط، وهذا ما أضعف هيبة الأستاذ أمام تلاميذه، ولم يعد قادراً على التفوّه ولو بكلمة لومٍ أو إشارة زجرٍ مما أدى إلى زيادة كبيرة في ضعف المستوى التعليمي لأبنائنا وانهيار مؤسساتنا التربوية الرسميّة.
وهنا أدعو الأهل إلى الرجوع لمقولة الأهل السابقين قائلين “أيها الأساتذة لنا العظم ولكم اللحم”، وتذكروا قولَ الله تعالى: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” ولو كان القصاص بالطّبشة بعيداً عن البطش والأذيّة وأن يكون للطّبشة مفعولها المعنويّ.
في الخمسينيات كانت الطّبشة (أم الحجلان) تؤدّب وتدفع التلميذ في مسار النّجاح، وأذكر القصاص الذي ينزل بنا من الشيخ المرحوم سعيد غصن (المتوفى 1961) الذي كان يعرفنا من لمسهِ نقرةَ الرأس، كان يستعمل “الحنغورة” التي لم تكد تلامس أمَّ الرأس، قائلاً “يحرق زراديمك”.
كنّا ننتظر درس الدّين من هذا الشيخ الذي حرمه الله البصر فأمده ببصيرة جعلته أسطورة في حفظه للقرآن والعديد من الأحاديث النبوية. كنا ننتظر درس الدّين وكنّا نحفظ كلّ الآيات مع تفسير معانيها ونشعر بالإرتياح من مغزى هذه الآيات التي تقرّبنا من الله تعالى.
أمّا اليوم فقد أصبح درس الدّين هرجاً ومرجاً، إذا لم يعد تعطى الآيات التي تشرح الصّدر فتقرّبه من الله عزّ وجلّ. لم يعد مدرّس الديّن شيخاً ملهماً يأتي بالآيات المحببة للأطفال حتى سنّ الثالثة عشرة، ومنها “ألم نشرح لك صدرك” و “لا تنس نصيبك من الدنيا” و “جنّات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا”، و”وأمّا بنعمة ربّك فحدّث”، وكم هي كثيرة الآيات التي يمكن أن يتمتّع بها الطفل في هذه الدنيا بعيداً عن التهديد والوعيد والخنق والنّار والسّعير، ومنها “عبس وتولّى أن جاءه الأعمى” و”سيصلى ناراً ذات لهب”، مثل هذه الآيات كان لها ظروفها ومن الصعب أن يتفهّمها الصغار، علماً أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمتلك سريرة صافية وابتسامة دائمة تجذب النّاس لاعتناق الدّين الجديد.
وأعود للمدرسة التي تعلّمنا فيها والتي أصبحت مخفراً فيه نظارة ولكن لا نظّار فيها بل ظلمة دامسة متأبّطة بجدرانها كما يتأبّط الظلام جوف القبور، فتذكّرت قول ابن زيدون:
“يا جنّة الخلد أبدلنا بسدرتها والكوثر العذب زقّوماً وغسلينا”
هذه المدرسة التي خرّجت أجيالاً من المثقّفين وكبار الموظّفين، كنّا نذهب إليها مشياً على الأقدام نحمل أكياسنا المتدلّية بـ”زيقين” والمبقّعة بالزّيت والزّعتر، فهما غذاؤنا اليوميّ وسرّ ذكائنا، وكانت تفوح من كتبنا ودفاترنا رائحة العلم والمعرفة والنّجاح.
وأرى اليوم تلاميذنا ينتظرون الأوتوكار تحرسهم أمّهاتهم المتبرّجات يحملن في يدٍ سَبَتاً يحتوي على أشهى السندويشات والفاكهة وألواح الشوكولا الفاخرة وفي اليد الأخرى محفظة جلديّة أصليّة غالية الثمن ويصعدن قبل أولادهنّ إلى داخل الأوتوكار ويتوسّلن للسائق بالعناية والقيادة بتؤدة وانتباه.
ورغم كلّ هذا فلم يتعلموا ويصلوا كما تعلّمنا ووصلنا، وقد كنّا نصمّد خرجيتنا لعدّة أيّام لنتمكّن من شراء “ألّيطة” (كعكة) المرحوم رزّاق وكانت بعشرة قروش ومحشوّة بنمّورة المرحوم أحمد الطنطوري أو المرحوم محمد خضر حدادة (طافش) وكانت بخمسة عشر قرشاً وأحياناً كنا نطلب تخفيض حشوة النمّورة لنوفّر خمسة قروش نشتري بها فاكهة (الأكّادنيا) من المرحومة عيشة راجحة التي كانت تغرينا بندائها “ودِّع يا أكّا” علماً بأن موسم الأكّا مازال في أيّامه الأولى.
كنّا نحمل “الألّيطة” بيد والكتاب بيد أخرى، نأكل ونقرأ مخافة أن يداهمنا جرس الفرصة قبل حفظ درسنا. أمّا اليوم فإننا نرى تلميذنا بحاجة إلى يد ثالثة ليحمل ما بحوزته من ألواح الشوكولا والسكاكر والسندويشات المتطوّرة سمناً وعسلاً ومارتديلا.
بورك زمن “الألّيطة” المحشوّة بالنمّورة العابقة بالسمن البلدي، إنّه زمن لن يعود لأنّ بائعيها قد ماتوا، فسبحان ربّي العظيم هل سيحيي العظام وهي رميم؟
وإلى اللقاء مع ذكريات أخرى.
*المدير السابق لثانوية برجا الرسمية
الصورة هذه مأخوذة في منتصف الأربعينيّات من القرن العشرين على ملعب مدرسة برجا المتوسطة للصبيان (سراي برجا اليوم) على بيادر حارة العين، ويبدو فيها مديرها الأستاذ محمد علي دمج والشيخ سعيد غصن والأساتذة:عبد الرحيم سعد وبهيج أحمد الخطيب وعثمان الشمعة وإبراهيم عبد الملك وخادم المدرسة من بيت قوبر من سبلين مع حشد من طلاب المدرسة آنذاك.
المقال من “برجا الجريدة” العدد الثاني نيسان 2018