الباعة المتجولون من زمن مضى.
كتب الأستاذ كمال ريشا مدير إذاعة الشرق:
ليست قصة من نسج الخيال بل هذا ما عشناه في قرية بترونية ساحلية، وأعتقد أن الباعة المتجولين كانوا يجوبون جميع القرى اللبنانية يحملون نفس البضائع؟.
كان الباعة يقصدون القرية مع بداية فصل الربيع وحتى أول موسم قطاف التفاح بداية الخريف، وكانت بضاعتهم محدودة وتتراوح بين الحلويات والبوظة والبُسط والسجاد والتفاح والعنب والبطاطا واللوبيا البادرية.
بائعو الحلوى والبوظة كانوا الأحب إلى قلوبنا، مع أننا كنا نتلقّى تحذيرات من مغبة الشراء منهم لأن حلوياتهم مكشوفة وتتعرض للتلوث، أما البوظة فهناك الطامة الكبرى لأنها كانت تسيل قبل أن نبدأ بتناولها، ومع ذلك كنا نشتريها خلسة وبعيداً عن أعين الأهل.
بائع الحلوى كان يحمل على رأسه “صدر” الحلويات ويضع تحته لفة من القماش ليحمي رأسه من ثقل صدر الألومنيوم الممتلىء ب “النمّورة” أو “الهريسة”، وإلى “الصدر” كان يحمل سيبة مثلثة الأضلاع ينتهي رأسها بدائرة يسند إليها صدر الألومنيوم، ليقطع النمورة للأولاد، وكانت القطعة بحجم علبة الكبريت بخمسة قروش، كنا نحتفظ بها إلى حين مرور البائع الذي لم نعرف اسمه يوماً.
إلى النمورة، كان يمر بالقرية أيضاً، بائع “القرمش”، و “غزل البنات”، و”الملبّس على قضامي”، و”الكزبرة”، هذا أيضاً كان يحمل بضاعته على رأسه ويحمل أيضاً نفس السيبة، وكان ينادي على حمولته بطريقة كاريكاتورية، منادياً بأعلى صوته “قرمش لا بيعضّ ولا بيخرمش”، كان ينادي على “القرمش” دون سائر الحمولة، فكنا نستوقفه لنشتري، إما قضبان القرمش بخمسة قروش أو مخروط من الملبس على قضامي وهي حبوب الحمص المكسوة بطبقة من السكر الملون، أو نفس المخروط من حبوب الكزبرة المكسوة بالسكر والملونة بألوان متعددة، أما غزل البنات فكنا نتحاشى شراءه، خشية التشكيك بذكوريتنا، فمن الإسم أدركنا أن غزلة السكر هي للبنات وليست للصبيان، فكانت خارج دائرة اهتمامنا.
باعة الحلوى كانوا متجولين لا يستخدمون السيارات وينادون على بضاعتهم بأصواتهم، أما بائع البوظة، فكان يأتينا بـ”فان” من نوع فولكسفاغن أزرق اللون، كتب عليه باللون الأصفر “بوظة السلطان”، ووضع في صندوقه براد البوظة، ويعلو سطح الفان مكبّر صوت، تنطلق منه الأغاني الرائجة، فكنا نسمع الأغاني ونعرف أن بائع البوظة قد وصل، وكان يركن سيارته في أماكن محددة بين المنازل، مطلقاُ العنان لمكبر الصوت وينتظرنا في صندوق الفان.
كانت البوظة حينها محدودة النكهات والطعمات وبرودة الثلج طاغية على النكهات التي كانت من فاكهة التوت، إضافة إلى نكهة الحليب والشوكولا ونكهة ماء الورد.
كانت أكواب البوظة من حجمين فقط، الحجم الصغير بكوب مستدير وهو ما يعرف اليوم بالحجم الولّادي، وثمنه ربع ليرة لبنانية، والحجم الأكبر مستطيل، ويتسع لكمية أكبر من البوظة، وثمنه نصف ليرة.
ومع اندلاع الحرب توقف جميع الباعة عن القدوم إلى القرية وتقدم بنا العمر مع نهايتها فلم تعد بوظة السلطان تثير شهيتنا بوجود النكهات المتعددة ولا النمّورة كذلك، ولم نعد نرى الكزبرة السكرية، أما الملبس على قضامي فأصبح معروضاً في واجهات المحامص بطريقة أكثر نظافة وأقل إغراءاً.
بائع التفاح كان يقصد القرية قادماً من قرية بشعلة في الجرد، يسبقه حماره الذي حمّل على ظهره ستة صناديق، خمسة منها للتفاح وصندوق للعنب، وفوق الحمولة “ميزان الشقل”، والوزنات من كيلو إلى خمسة.
كان بائع التفاح ينادي على بضاعته وأذكره طاعناً في السن، شعره أبيض، ويضع نظارتين، مع أني لا أذكر ثمن كيلو التفاح في تلك الأيام، إلا أننا كنا نشتهي أكل التفاح لأنه زراعة جردية ولا تنبت أشجاره في قريتنا الساحلية، وكان التفاح فاكهة نادرة، نتذوقها في موسمها، وعندما يزورنا البائع البشعلاني، كنا نشتري منه ما يقارب الصندوق، منه ما هو للأكل، والحبات الصغيرة لصنع المربّى لزوم أيام الشتاء.
أما العنب فيكون قد اختفى من كرومنا مع بداية فصل الخريف، ليعود إلينا عنبُ الجرود الذي يتأخر نضوجه بسبب المناخ البارد، فكان أيضاً بالنسبة لنا فاكهة في غير أيامها.
بائع البطاطا واللوبياء البادرية للمونة، كان يأتي إلينا من حصرون، وهو ما زال إلى اليوم يزور القرية حاملاُ البطاطا الجردية، واللوبياء البادرية المخصصة لطبخ الفاصوليا خلال فصل الشتاء، وبعد أن كان يأتي إلى القرية مصطحباً بغلاً محملاً بالبطاطا واللوبياء، تدرج إلى سيارة بيجو 504، ثم سيارة بيك آب، ما زالت بحوزته إلى اليوم، وما زالت مونته على زبائنه السابقين هي نفسها، يصل إلى منازلهم من دون أن يسألهم ما إذا كانوا في حاجة إلى البطاطا أو اللوبياء، فيضع كيس بطاطا زنة 25 كيلو أمام المنزل أو يدخله إلى غرفة المونة التي يعرفها منذ زمن مع خمسة كيلو لوبيا، ويطالب بالثمن الذي يحدده، وما زال أهالي القرية من زبائنه السابقين، يدفعون له، ولا يساومون على السعر، لأنهم يثقون به وببضاعته التي لم تتغير جودتها بالنسبة إليهم منذ عقود.
باعة البسط والسجاد كانوا يأتون من طرابلس أو من برجا، ونشأت علاقات ودّ بينهم وبين معظم أهالي القرية فكان باعة البسط يحملون تلك التي تمت حياكتها من الأقمشة المستهلكة وكانت ألوانها مزركشة تبعاً للقماش المستعمل، وكان بعض الأهالي يعمدون إلى جمع الثياب التالفة والشراشف التي أصبحت ممزقة وينتظرون قدوم باعة البسط، فيعطونهم ما جمعوه من قماش فيأخذه هؤلاء ويعيدونه إليهم بسطاً ويأخذون بدل تصنيعه في طرابلس.
باعة البسط كانوا يفدون إلى القرية من طرابلس، حاملين على أكتافهم ما استطاعوا من البسط التي كانت قماشاً معقوداً ومتصلاً بألوان مختلفة ومزركشة، وكانت بضاعتهم بخسة الثمن، ومع ذلك كان أهالي القرية يلجأون إلى التوفير فيجمعون خلال العام ما يتيسر لهم من ثياب تالفة وشراشف وأقمشة تمزقت ولم تعد صالحة، ويعطونها للباعة فيأخذونها إلى طرابلس لحياكتها بسطاً ويعودون بعد أسبوعين أو ثلاثة مع البسط ويقبضون ثمن التصنيع.
أما باعة السجاد فكانوا في الغالب من برجا، كانوا يأتون في البداية سيراً على أقدامهم، وأكثر من بائع، على الغالب كانوا أشقاء أو أبناء عائلة واحدة، وكانوا يصلون إلى قريتنا مع ما تبقى لديهم من سجاد باعوا معظمه في طريقهم من برجا إلى الشمال، وكانوا يبسطون بضاعتهم أمام ربات المنازل، ليخترن منها ما تبقى من السجاد، وغالباً ما كانت زيارتهم خائبة لضيق ذات اليد، أو لأن السجاد لا يغير كل عام.
ومع ذلك واظب باعة السجاد على زيارة قريتنا حتى عشية الحرب الأهلية ولكنهم اشتروا سيارات من نوع ستايشن، كانوا يُحمّلونها بتشكيلة أكبر من السجاد من مقاسات وألوان مختلفة.
البسط لم تعد معروفة وأصبح السجاد يكسو أرضيات المنازل، والأكيد أن الباعة المتجولين لا يشكلون مصدر إرضاء لأذواق سيدات هذه الأيام، فالسجادة مكملة لديكور المنزل وألوانها يجب أن تكون مدروسة بعناية افتقرت إليها سجادات زمان.
نشر في “برجا الجريدة” العدد الثاني 2018