يقولون: كلما عتَقَ القصبُ زادتْ حنِّيتُه.
وما أدري وقد بُحَّ صوتُ النَّايِ حزناً على صاحبِه، كيفَ نواسيه!
الفنُّ الحقيقيُّ هو المسكونُ بالإبداع، هو مظهرٌ كونيٌّ من مظاهرِ الخلْقِ الأوَّل، هو سرُّ التكوينِ الأزليّ.
في أوروبا يومَ كان الجهلُ رغيفَ الناس، كانتِ العقولُ محفورةً بالرُّعب!
ونحن بعدما كنَّا حواضرَ للعلم ومناراتٍ للفنون ، نتلو آياتِ اللهِ في الكونِ والآفاقِ والنَّاس “لكم دينُكم ولي دين” و “فمن شاء فلْيؤمنْ ومن شاء فلْيكفر” أمسينا نَعْلُكُ التُّرَّهاتِ وأمسكَ بزمامِنا المجانين!
ها نحن نبحثُ عن الجمالِ وكينونتِه بيننا ثمَّ لا نجدُ غيرَ الخَوَاءِ يَصْفِرُ في عقولِنا!
النَّاسُ تتوقُ اليومَ إلى من يُرمّمُ مسامعَها من صوتِ القنابلِ ومن هديرِ الأصواتِ المحرّضةِ على القتْلِ والحقدِ والكراهيّة.
تحتاجُ اليومَ إلى من يُصالحُ الرُّوحَ مع الحياة، مِن لَوْثةِ الصَّخبِ والضَّجيج ، من الهمِّ والنَّكد.
نذكرُك الآنَ يا عازفَ النَّاي.
يا عازفَ النَّايِ صوتُ النَّايِ أشجاني، يا عازفَ النَّايِ هذا اللّحنُ يُشجيني .
أيقظتَ جُرحاً وحُزناً كاد يُنهيني…
يا عازفَ النَّاي لِمَ تشدو لتُطربَني؟
أوجعتَ قلبي بآهٍ من شراييني.
ماذا سيقولُ نَّايُك عن ألمِه يا أبا خضر؟
بل ماذا سيقولُ عن أدمعِنا وأدمعِه!
قلةٌ من النَّاسِ تعرفُ قيمةَ أصحابِ المواهبِ وصُّنَّاعِ الإبداع.
يمرُّون هكذا في حياتِهم كمرِّ السَّحاب ويأخذُ مكانَهم آخرون.
نايُ أبي خضر مايُشبهُ ناياتِ اليوم… نايُهُ من زمنٍ كانت تَعبَقُ فيه روائحُ الكروم، بين تينِ وعنبِ وزيتونِ “بركة الحجر”.
هناك في تلكم النَّاحيةِ من “ضهر الديماس” في برجا الشُّوف، حيثُ تعلّمَ العزفَ وصاحبَه الأمل.
كنَّا إذا تاقتْ قلوبُنا إلى حكايا الجمالِ وطارتْ، فإنَّها ما كانت تحُطُّ إلا عندَه، حيثُ الصوتُ العذْبُ من تنغيمةِ نايِه.
هناك على “كتفِ الدِّحِدْحَيْن” فوق الوادي كنَّا ندركُ كم نحن أقربُ للسَّلام.
يا عازفَ النَّاي… صوتُ النايِ أبكاني .
يا عازفَ النَّاي… لعلَّ في الدمعِ تخفيفاً لآلامي.
ألقاها الشّيخ جمال جميل بشاشة في رثاء الأستاذ طاهر خضر حمية في ثالثه بقاعة الشيخ أحمد الزعرت في مسجد الشّيخ محمّد الديماسيّ ببرجا الشّوف يومَ السّبت الخامس من آب 2017.
نشرت في العدد الأول من برجا الجريدة كانون الثاني 2018