ظهر الأحد الأول من نيسان 2018 تداعت ثلة من خريجي جامعات الإتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية سابقاً وعدد من الأصدقاء لتكريم الأستاذ الدكتور محمد عبد السلام الزعرت، في مطعم العربي عند نهر الأولي بصيدا، تقديراً له وعرفاناً بجميله ولمسيرته في خدمة برجا وأهلها، وهو الذي سهّل لمئات الطلاب الطريق نحو التخصص الجامعي وأمّن لهم المنح الدراسية في تلك البلاد بدون أي مقابل، وعلى مدى ثلاثة عقود منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين.
بدأ الحفل بالنشيد الوطني اللبناني، بعد ذلك تحدث المهندس أسامة خالد حوحو فقال:
المهندس أسامة حوحو:
الدكتور محمد الزعرت مثال للعطاء والتضحية
إن تكريم شخص ما، لهو من دواعي الغبطة والفخر، فكيف إذا كان المكرم هو العبقري د. محمد الزعرت؟.
كثيرون تم تكريمهم، فمنهم من استحق التكريم بجدارة، ومنهم من طالب به. إلا أن مكرمنا بقي خاضعاً لعملية إقناع دامت زهاء خمس سنوات، إستسلم بعدها، فشكراً على اقتناعه بإقامة هذه الإحتفالية.
في صيف العام 1961 شد رحاله من ساحة العين باتجاه الساحة الحمراء مروراً بعدة عواصم أوروبية ومتحدياً الصعوبات المالية والأمنية لينهل العلم والثقافة وحب الإنسانية.
حطت به الرحال في جامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو، تلك الجامعة التي أسستها الدولة السوفياتية سنة 1960، والتي جمعت بين جدرانها آلاف الطلاب من الدول النامية.
لقد نسج الرفيق الزعرت، كما كان يحلو للكثيرين من الرفاق السوفيات مناداته، علاقات رفاقية وإنسانية مع العديد منهم، وعلى رأسهم الرفيق”غولوبيف” المسؤول عن تعليم الطلاب الأجانب في وزارة التعليم السوفياتية.
وقد أتاحت له هذه العلاقة مع الرفيق”غولوبيف” مساعدة الكثيرين من أبناء وطنه المتشابهين معه في الأحوال الإقتصادية، في متابعة الدراسة الجامعية، سواء في لبنان أو خارجه.
وهكذا كان، فساهم الدكتور محمد في إتاحة الفرصة للعديد من أبناء بلدته برجا والوطن لمتابعة الدراسة في الإتحاد السوفياتي ودول المنظومة الإشتراكية.
الرفيق الزعرت هو مثال للعطاء والتضحية، فقد ساعد الشباب في التحصيل العلمي دون أي مقابل مادي، له وللرفاق السوفيات باستثناء هدية متواضعة من نقابات العمال في لبنان تلقاها الرفيق”غولوبيف”.
بعد عودته إلى لبنان، سارع الرفيق الزعرت مع زملاء له إلى تأسيس جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الإتحاد السوفياتي، التي كان هدفها الأول تحقيقَ معادلة شهادات الجامعات السوفياتية في لبنان، فخاض مع زملائه حرباً طاحنة لتحقيق ذلك، واستطاعوا انتزاع هذا الإعتراف من السلطات التربوية اللبنانية آنذاك.
وانطلاقاً من هذا الإنجاز الكبير الذي حققه الرفاق الأوائل في جمعية المتخرجين، وتكريماً لمساهمات الدكتور محمد الزعرت في إتاحة الفرصة للعديد من أبناء الوطن في التحصيل العلمي، لابد من تأسيس صندوق منحة سنوية مجانية باسمه تكريماً له، وهذا ماسنعمل على تحقيقه بالتنسيق مابين المركز الثقافي الروسي في بيروت وجمعية متخرجي جامعات ومعاهد الإتحاد السوفياتي، تلك الجمعية التي ساهم في تأسيسها وكان الرئيس الأول لهيئتها الإدارية.
الدكتور محمد الزعرت، ليس بالعالم والمثقف والمفكر فحسب، بل هو الأديب المبدع، فإلى جانب إبداعاته العلمية، فاضت بلاغته في الثقافة والأدب فكان رفيقاً لميخائيل نعيمة، وغدا من خلال سرده أقاصيص شعبية وحكايات كفاحية، مارون عبود برجا.
تألق في الفكر والنص السياسي فكان محمد عبده.
أبدع في سرد الحكايات والأدب فكان د. محمد الزعرت.
أحب الإنسانية وعشق الإشتراكية، فكان الرفيق الزعرت.
أبا نادين، نفتخر بك أعلى درجات الفخر، ونعتز بتاريخك ونضالك أكبر الإعتزاز.
المهندس محمد سليمان المعوش :
ما قمت به عجزت عنه المؤسسات والمنظمات والجمعيات
ثم ألقى المهندس محمد سليمان المعوش هذه الكلمة :
قبل أكثر من خمسين سنة وحوالى الساعة الرابعة من عصر يوم الجمعة في الثالث والعشرين من أيلول عام 1966، وعندما كنت منهمكاً مع زميل الدراسة في تلك الأيام علي موسى الحاج من الجية في التحضير لامتحان الدخول إلى كلية التربية في الجامعة اللبنانية، وكانت تُعرف في حينه بدار المعلمين العليا، وعلى شرفة منزلنا في عين الزغير لفت نظري قدومُ طفل لا يتعدى عمره العشرَ سنوات باتجاهي.
كان أحمد الزعرت شقيق الأخ محمد. إتجهت إليه فبادرني بصوت خافت أن أذهب إلى أخيه محمد لأمر هام.
تركت زميلي علي وحيداً ومضيت أنا وأحمد إلى بيتهم.
هناك أخبرني محمد بأن منحة إلى بلغاريا لدراسة الطب قد أمّنها لي، وعليَّ أن أحضّر نفسي للسفر خلال أسبوع، وكل ذلك يجب أن يتم بالسر وع “السِّكيْت”، وعليَّ أن أكتم الأمر عن الجميع.
وهكذا كان. مرحلة التحضير تبدأ بجواز السفر، وجواز السفر يبدأ بإخراج القيد، والجميع يعلم أنه في تلك الأيام كانت دائرة النفوس في شحيم، وعليّ الذهاب مشياً على الأقدام ذهاباً وإياياً من عين الزغير إلى المرج فإلى الشميس ثم شحيم، ثم حسن السلوك من المختار علي درويش دمج ومخفر برجا.
وبعد الحصول على جواز السفر عليَّ أن أحصل على تأشيرات إلى تركيا واليونان، لأن السفر إلى بلغاريا كما باقي الدول الشرقية كان أمراً شبهَ ممنوع، فعلى جواز السفر مكتوب بصورة واضحة وسريعة أن هذا الجواز صالح لجميع البلدان ماعدا إسرائيل وأوروبا الشرقية.
على أنني في آخر الأسبوع كنت قد انتهيت من كل ذلك، وبالفعل فقد انطلقنا إلى دمشق إلى السفارة البلغارية، حيث أعطتني تذكرة السفر وتأشيرة مستقلة عن الجواز، هي عبارة عن ورقة تحمل رقماً متسلسلاً وضُمت إلى الجواز.
إنطلقت الرحلة صباح يوم الإثنين حيث وصلت إلى صوفيا الساعة الواحدة ظهراً في الثالث من تشرين الأول 1966، وهناك بمساعدة الطلاب اللبنانيين جرى تسجيلي، ولكنني مباشرة بعد ذلك قمت بتغيير الإختصاص إلى الهندسة بعد أن علمت أن دراسة الطب تتطلب سنوات أكثر.
وحيث إنني سوف أتعلم بلغة أجنبية لا نعرف ولم يسبق لنا أن سمعنا أو رأينا كيف تكتب وتقرأ، كان عليّ أن أعمل بنصيحة الأخ محمد، وهو زوّدني بكثير من النصائح، كيف أتعامل مع الزملاء والناس وكيف أتصرف.
من ضمن نصائحه أن أعاشر الطلاب البلغار أكثر من العرب لكي أسمعهم عن قرب كيف يتكلمون، وعليَّ أن أقرأ وأنا أتعلم اللغة بصوت عال، وعليَّ أن أسمع الراديو والتلفزيون ولو أنني لا أفهم اللغة، وعليَّ أن أشتري الجريدة وأقرأها.
وبالفعل لم يمض على وجودي أربعة أشهر حتى كنت الأول في معهد اللغة، وجرى تسجيل صوتي وطريقة اللفظ عندي كي يتعلمه الطلاب ودارسو اللغة.
وهكذا بعد سفري أنا بسنة واحدة كرت السبحة عن طريق محمد الزعرت نفسه، محمد عبد الرازق سعد وعمر راجح شبو وسليم خضر شبو وعلي الزعرت وسالم عبد القادر رمضان وسليم محمد المعوش وغيرهم.
إن ماقام به محمد الزعرت بعزيمته الفولاذية وأخلاقه العالية وإيمانه الراسخ وحبه لبلدته ووطنه فاق كل التوقعات، لاسيما وأنه لم يكن في برجا في تلك الأيام سوى طبيب واحد ومهندس واحد، وكل الجامعيين كانوا من أصحاب الإختصاصات النظرية، والجامعة اللبنانية وكلياتها التطبيقية لم تكن موجودة وكذلك جامعة بيروت العربية وبقية الجامعات ماعدا الأميركية واليسوعية حيث لم تكن طريقُ برجا إلى هاتين الجامعتين سالكة بعدُ للأسباب المعروفة.
أعزائي: بعد هذه المشهدية التي أوردتها لكم، أريد أن أعبر أنا وجميع إخواني بالقول إننا مدينون لمحمد الزعرت. أنا شخصياً أحمل في عنقي أمانة وعرفاناً بالجميل لا أنساه مادمت على قيد الحياة.
لقد استفاد من عطاءاته، كما في برجا كذلك في الشوف والجنوب وغيره من المناطق، عشراتُ الأشخاص الذين انتقلوا بواسطة شهاداتهم التي حصلوا عليها أثناء الدراسة إلى أعلى المراكز في المجتمع وفي المؤسسات الحكومية والخاصة.
ورغم صعوبة معادلة الشهادات في بادىء الأمر وكذلك الحصول على فرص العمل إلا أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح.
إن ما قام به محمد الزعرت وحيداً في أول الأمر وبعد ذلك، لهو عمل جبار عجزت عن القيام به المؤسسات والمنظمات والجمعيات.
وعلى عكس ما كان يتوهم بعض الجهلة، لم يَطلب من أحد شيئاً، ولم يفرض شروطاً سياسية أو مادية، وأنتم تعرفون جميع الخريجين، فهم من جميع العائلات والإنتماءات والإتجاهات السياسية.
عذراً دكتور محمد لقد تأخرنا عليك، ونحن نعلم أننا لايمكن بهذا التكريم أن نوفيَك حقك، حتى ولو بجزء يسير مما قدمته لأهلك ولبلدك.
وإنني أنتهز المناسبة لأقول لك باسمي وباسم إخواني : شكراً.
أنت الشمعة الصغيرة ذات الضوء الخافت التي استطاعت بعزيمة وهمة عالية وأخلاق وتواضع قل مثيلُهم أن تنير وتمحوَ الظلمة التي كانت سائدة.
نعم، لقد غيرت المقاييس وقلبت الموازين.
الدكتور محمد عبد الرحيم سعد:
خدمة الناس كانت أجل مهماته
الدكتور محمد عبد السلام الزعرت هو مناضل من الطراز الأول، جمع مزايا وخصالاً إنسانية كثيرة. ضعيف أمام الطفل والمريض والصغير.
صلب، يحترم الناس وآراءهم وتعدد وجهاتهم، نهجه في الحياة هذا جعله قريباً من كل الناس الذين من حوله حتى الذين يختلفون معه.
قال عنه محافظ الجنوب خلال حفل تكريمه بعد بلوغه سن التقاعد إنه لم ير مثيلاً له في الوظيفة العامة.
منذ أمد بعيد وهو يتخطى العقبات الإجتماعية والدينية والسياسية في سبيل خدمة الناس، بل إنه تعرض للأذى الجسدي والفكري والمعنوي، ولكن صموده أتعب معارضيه.
خدمة الناس كانت أجل مهماته.
الفضل في مسيرته لأخيه الأكبر الأستاذ مصطفى، الذي كان له السند الأساس القوي، ولوالدته مرضية التي فتحت قلبها وبيتها لكل الشباب، ولوالده الذي أوصى وهو في الإتحاد السوفياتي أن يدفن تحت الخروبة في مدافن البلدة، وهذا يدل على أنه كان يحمل برجا في ضميره وبأدق تفاصيلها في تلك البلاد النائية.
أذكر أنه صادفتني مشكلة في الجامعة وكدت أن أعود إلى لبنان لولاه، فقد جمعته علاقة متينة مع مستشار رئيس الوزراء “غولوبيف” وعن طريقه ذلّل لي ما واجهني من صعوبات.
يومها وعندما علم “غولوبيف” بوجود الدكتور الزعرت في صالون الإنتظار أدخله إليه متجاوزاً العديد من كبار المسؤولين السوفيات الذين كانوا ينتظرون لقاءه.
المهندس فخر الدين دكروب:
وظف علاقاته في خدمة الطلاب اللبنانيين والعرب
صديق الزعرت المهندس فخر الدين دكروب كانت له هذه الكلمة:
سعدت كثيراً بدعوتكم لي للمشاركة بتكريم عزيز علينا ورفيق غال، هو الصديق الرائع محمد الزعرت، إنسان محب يذكرني دائماً بأيام حلوة لاتنسى.
أعود إلى الوراء لأكثر من ستين عاماً مضت، يوم وصولي للدراسة في موسكو عام 1962.
لقد كان أول من تعرفت عليه حين استقبلني ورفقائي، شاب أنيس، قصير القامة، حلو المعشر، خدوم.
أخذ بيدي لحظة وصولي إلى موسكو، علماً بأني أكبره سناً، مع ذلك كنت أسير خلفه، أستمع لنصائحه، وألبي أوامره بطيبة خاطر.
هذا هو محمد (لحظة معرفتي به) وهو الذي خدم الجميع، وقدم كل إمكانياته لتأمين راحة القادمين من لبنان بهدف الدراسة في موسكو.
منذ ذلك اليوم نشأت بيننا صداقة عميقة تطورت لتدوم حتى يومنا هذا.
أثناء وجوده في موسكو، كوّن محمد صداقات وعلاقات طيبة مع كثير من الأساتذة المحاضرين والإداريين في جامعتنا (جامعة الصداقة بين الشعوب-لومومبا) ووظف هذه العلاقات والصداقات في خدمة جميع اللبنانيين، وحتى العرب، وكان متفانياً في خدمتهم جميعاً.
هذا هو محمد الزعرت، وأنتم يا أهل برجا وخريجيها ومثقفيها تعرفون أكثر مني أهمية خدماته وأثرها الطيب، لاسيما تسهيله لكم الحصول على منح دراسية لكم وللجوار بهدف الدراسة في الإتحاد السوفياتي آنذاك.
كان محمد راعياً لشؤون الرفاق وغير الرفاق كافة.
لقد تولى مسؤوليات عديدة، من رئاسة رابطة الطلاب اللبنانيين، إلى رئاسة المنظمة الحزبية، إلى مسؤوليات متعددة في اتحاد الطلاب العرب.
وظف هذه المسؤوليات في خدمة مصالح اللبنانيين، وحمى البعض منهم من الفصل من الجامعة لأسباب مختلفة، بعضها غير محق، منهم أنا شخصياً مع الرفيق العزيز الدكتور غسان الأشقر لأسباب واهية.
هذه بعض صفات الدكتور محمد الزعرت المميزة، هو المثقف المناضل، الأستاذ الجامعي والموظف النشيط والمخلص في دوائر الدولة.
الدكتور الزعرت:
لا فقر أشق من الجهل
ختاماً كانت كلمة المحتفى به الدكتور محمد عبد السلام الزعرت فقال:
منذ أكثر من عشر سنوات طرح عليّ الصديق المعمّم الشيخ جمال بشاشة فكرة التكريم هذه ولكنني رفضت لأسباب سياسية وشخصية، ثم عاود الكرة وعاودت الرفض إلى أن حشرني مؤخراً بتحريض من القاضي الصديق مصطفى ترو ومساهمة من الصديق محمد إبراهيم شبو وتشجيع من الدكتور محمد عبد الرحيم سعد.
تجربتي في الحياة إلى تنقسم أربعة أقسام من الناحية التاريخية الشخصية.
أولاً: كيف تعرفتُ على الإتحاد السوفياتي وعلى الهندسة.
ثانياً: مرحلة التخصص في الجامعة من 1961 حتى 1966.
ثالثاً: مابعد التخرج 1966 إلى 1970.
رابعاً: التخصص والتفرغ الجامعي بمساعدة الأصدقاء وعلى رأسهم الدكتور علي الصايغ.
والسؤال الذي لازمني طوال هذه الفترة من حياتي هو : لو لم أحصل على منحة من الجامعة ماذا كان حلّ بي؟ ماذا كنت عليه الآن؟.
عام 1956 ضربت لبنان وتحديداً منطقة إقليم الخروب في الشوف هزة أرضية مدمرة آخر أيام حكم الرئيس كميل شمعون الذي كان يحاول التجديد لعهده.
وقد عيّن المهندس إميل البستاني رئيساً لمصلحة التعمير التي أنشأها لمعالجة آثار الزلزال والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمواطنين وأملاكهم.
وكان شمعون قد قسّم الشوف إلى دائرتين لفصل الإقليم عن الشوف، أي لفصل (السنة عن الدروز) وتشكلت لائحتان في الإقليم الذي عرف بدائرة (شحيم ودير القمر) وفيها إميل البستاني وأنور الخطيب، وفي لائحة ثانية علي سعد وفؤاد عمّون.
ورغبة منه في الترويج لسياسته وترشيحه، قرر إميل البستاني جذب تأييد شباب برجا المتحمسين آنذاك لترشيح الدكتور علي سعد، وذلك بإجراء مسابقة في مادة الهندسة والتي كان أستاذها آنذاك مدير المدرسة محمد علي دمج، وكانت نتيجة المسابقة أنني فزت بالمرتية الأولى على خمسة عشر متبارياً من صف البريفيه.
وقد قسمتُ الجائزة التي نلتها كالآتي : القسم الأول أنني دعوت أبناء صفي الخاسرين إلى حضور فيلم سينما واشتريت لوالدتي كيس طحين نقدي ب خمس عشرة ليرة لبنانية تأميناً لخبز المرقوق، واشتريت لنفسي قطعة قماش لخياطة بنطلون بدلاً من البنطلون القديم الذي ورثته عن شقيقي الأكبر مصطفى.
وبما أن التدخلات الإنتخابية هي المجال الممكن للإنتقام من المواطنين، فقد جاءت الإنتخابات لا لتؤكد المنحة بل لتبعدها عني وتحرمني منها.
في هذه المرحلة إجتمعت لجنة الجائزة التي كانت مشكلة من أساتذة في التكميلية، وطارت الجائزة وحرمت من منحة الهندسة التي ظلت في بالي وذاكرتي حتى دخلت الثانوية في بيروت وزادت معاناتي أنني هناك تعرفت على شيوعيين، وبدأت نشاطاً ملحوظاً إلى أن طردت من الثانوية بعد أن انتسبت إلى الفرع الأدبي إنتقاماً من الهندسة.
طردت من ثانوية طريق الجديدة إلى ثانوية فرن الشباك، إلى أن أعلن عن تأسيس جامعة الصداقة في موسكو.
عام 1960 علمت عن طريق الإعلام بإنشاء جامعة في موسكو إسمها (جامعة الصداقة بين الشعوب). بعد مضي سنة على تأسيس هذه الجامعة قُبل طلبي في صيف 1961 برسالة مباشرة جاءتني من الجامعة.
سافرت عام 1961 برفقة خمسة من زملائي – بعد أن حصلت على فيزا مزدوجة إلى بلجيكا واليونان وإيطاليا إمعاناً في التمويه – عن طريق أوروبا (بروكسل) لتضييع الأمن العام، حيث كانت وجهتنا موسكو، وكنت أول لبناني من إقليم الخروب يصل إلى بلاد الستار الحديدي كما كانوا يسمونها، وكانت منحتي في الطب.
قضيت في الجامعة خمس سنوات بعد أن غيّرت منحتي إلى الهندسة اختصاراً للوقت ولأن العائلة كانت تنتظرني.
عدت إلى برجا عام 1966، وبعد أن كان شعاري قبل أن أسافر: (أطلبوا العلم ولو في الصين) أصبح شعاري في بلدتي (لا فقر أشق من الجهل).
وعلى هذا الأساس وبمساعدة الرفاق في الحزب إستطعت خرق جدار المنح وحصلت على أول منحة لشباب برجا، وكانت إلى بلغاريا وحصل عليها الشاب محمد سليمان المعوش، وفي السنة الثانية كانت المنحة من نصيب محمد عبد الرازق سعد وكانت منحة طب إلى كييف عاصمة أوكرانيا وكرت السبحة.
عام 1970 جاءتني دعوة لحضور احتفالات الذكرى العاشرة لتأسيس جامعة الصداقة، وفي العام نفسه أسسنا جمعية متخرجي جامعات ومعاهد الإتحاد السوفياتي في لبنان، وكانت أول جمعية على صعيد العالم العربي، وربما الأولى في العالم.
هناك التقيت بعميد الجامعة “روميانتسيف” ومسؤول الخريجين في العالم “غولوبيف” الذي كان قد أصبح يحتل مركز نائب وزير التعليم العالي في الإتحاد السوفياتي، وقد توطدت علاقاتي به بعدما أكد أننا نقوم بنشاط ملحوظ على صعيد ترسيخ وتقوية العلاقات الثقافية بين لبنان والإتحاد السوفياتي.
ومنذ ذلك الحين إزدادت رسوخاً علاقاتي مع الوزارة وزاد عدد المنح.
عام 1986 كان عاماً مشهوداً، في تلك السنة قمت بناء على دعوة كريمة من الصديق الراحل حسيب عبد الجواد بزيارة موسكو لحضور الذكرى المئوية لعيد الأول من أيار، وفي هذه السنة بالذات حصلت كارثة تشرنوبيل في أوكرانيا.
وقد استطعت في تلك الرحلة وزيارتي لـ “غولوبيف” تأمين أربع منح للنقابات في الجنوب، كانت مجمدة في وزارة التعليم العالي، على أن تكون هذه المنح سنوية وثابتة وأن أكون مسؤولاً عن الترشيحات.
بعد موافقة الهيئة الإدارية لجمعية المتخرجين من جامعة الصداقة واعتباري رئيس شرف للجمعية، طلبتُ ووافقتْ الهيئة الإدارية على تخصيص منحة سنوية لأحد المتفوقين من شباب برجا للتخصص مجاناً في أحد فروع الطب وخصوصاً في الأمراض المستعصية، تكون هذه المنحة دفعاً جديداً لرفع الإهمال الفاضح الذي تعاني منه برجا التي تتوق إلى الحرية والصحة والجمال والتقدم.
عن برجا الجريدة العدد الثالث تموز 2018