كتب المهندس جاد سهيل دمج:
كلما خرج برجاوي للتنزه في مناطق لبنان المختلفة، دائماً ما يتحسر على بلدته ويتساءل: ماذا حلّ بها؟ لماذا لا يجد النظام والراحة والمنهجية التطويرية كما في باقي المناطق؟ فيبدأ بالمطالبة بتحسين بلدته وتخفيف الملوثات والفوضى فيها!
لا يمكننا أن ننظر لوضع برجا كبلدة أو مدينة، أو مشروع مدينة، فقط عبر النظر داخل حدودها العقارية، بل علينا أن ننظر إلى التمدد الديمغرافي الحالي والمستقبلي، فنجد أن برجا في الحقيقة بدأت تقضم مساحات كبيرة من معظم البلدات المحيطة بها ، كالجية وجدرا وبعاصير والبرجين مشكلةً بذلك تعريفاً جديداً يمكننا أن نطلق عليه اسم “برجا الكبرى” … ماذا يحصل في برجا كبرى؟
إنطلاقاً من موقعها الجغرافي الساحلي وقربها من الطريق الدولية التي تربط بين عاصمة لبنان بيروت، وعاصمة الجنوب اللبناني صيدا، وبسبب توسطها هاتين المدينتين، ووجود كتلة بشرية تعتبر الثانية من حيث العدد في الشوف، بالإضافة إلى الميراث الإقطاعي الذي قسم الشوف وظيفياً، يمكننا وبسهولة الإستنتاج بأن النظام اللبناني قد قرر ومنذ زمن التعامل مع هذه المنطقة على أساس أنها منطقة “صناعية” بكل ما تحمله هذه الكلمة من سلبيات وايجابيات… منطقة تفتح أبوابها وأرضها وهواءها وماءها خدمة لمستثمريها ومستثمري منطقة الشوف وصيدا وبيروت.
إن تقسيم المدن عادةً يكون على أساس تحديد مناطق أو “زونات” تتدرج حسب الوجهة المقررة لها من خبراء في تنظيم وتطوير المدن اقتصادياً واجتماعياً وحضارياً، من مناطق سكنية على اختلاف كثافتها، وصولاً إلى مناطق تجارية أو سياحية، ثم حرجية وخضراء، ثم صناعية على اختلاف درجاتها… بسبب صغر مساحة لبنان، إذ إن بعض المدن تبلغ مساحتها نصف مساحة لبنان أو ربما أكثر، ولقرب المسافات فيه، فإن هذا القرار باعتبار برجا الكبرى أرضاً للاستثمارات الصناعية لا يعتبر خطأً على المستوى النظري إذا تغاضينا عن التفاصيل الواقعية، بل خطوةً استراتيجية محقة نوعاً ما.
فإذاً، ما هي المشكلة؟ ولماذا يتذمر أهالي برجا الكبرى؟
يقول الفيلسوف الصيني لاو تسو، مؤسس الديانة الطاوية، إنه عند اختيار السكن، علينا أن نقترب قدر الإمكان من مستوى الأرض… وهذه النصيحة ليست بغريبة على أحد، إذ إن الجلوس مباشرةً على أرض الطبيعة يُشعر الإنسان بشكلٍ عام براحة جسدية وروحية تخفف من ضغوطات الحياة إلى حدٍ بعيد.
ومن هذا المنطلق الفلسفي الملموس، فإنه لا يخفى على أحد أن الأراضي البرجاوية الغير مبنية في انحسار شديد، وإمكانية اتباع النصيحة الصينية لهو بالأمر المكلف والعسير.
لذلك، فإن الراحة والطمأنينة في المسكن لم تعد متوفرة في أنحاء برجا الكبرى التي بات يغلب عليها الطابع المدني من حيث زيادة الكتل الإسمنتية وقلة المساحات الخضراء.
ويقف وراء ذلك عدد من الأسباب، أهمها الزيادة المتسارعة لعدد السكان في العقود الأخيرة دون أن يتم متابعة الأمر وقراءة تأثيره ومعالجة أضراره، فبقيت برجا محكومة بقوانين تنظيمية مجحفة من حيث التوسع العامودي في البناء والذي كان من الممكن ان يحافظ نوعاً ما على الأراضي والمساحات الخضراء مقابل الاستفادة من المدى الجوي إذا صح التعبير.
وبمتابعة الحديث عن القوانين المجحفة، وإذا اطلعنا على تطور التصنيفات العمرانية لبرجا الكبرى، وجدنا تقسيمات غريبة غير منطقية تدفع نحو الفوضى وعدم الشعور بالأمان، فإن تقسيم المناطق الموجود حالياً يدفع بنا إلى الاعتقاد للأسف، بأن من قام بالتقسيم ليس مختصاً أو أنه لا يعرف المنطقة أو لم يزرها إطلاقاً.
فمنطقة برجا، كما مختلف المناطق اللبنانية، تتمتع بتضاريس قاسية من تلال ووديان، خلقت حدوداً وفواصل طبيعية كان من المفترض ان تُحترم في تحديد الأقسام المختلفة. فكمثال، ليس من المنطقي إطلاقاً وبأي شكل، أن نرى على سفح تلةٍ واحدة، متصل نظرياً وخدماتياً وأيكولوجياً، تصنيفين متناقضين، أحدهما سكني، والآخر صناعي! وأيضاً، دون أن يلحظ التقسيم أي مساحة خضراء عازلة بين الإثنين!
كيف يمكن للسكان أن ينعموا بحياة هادئة بالقرب من المصانع وضجيجها؟ هذا دون التحدث عن مخالفاتها في بلدٍ معدوم الرقابة والمتابعة؟ وفي المقابل، كيف يمكن للمستثمر وصاحب المصنع أن يتحمل مضايقات الأهالي والإشكالات المحقة التي يمكن أن يفتعلوها وهو الذي اشترى واستثمر في منطقة صنفها التنظيم على أنها صناعية!؟ إنها الفوضى وعدم الإستقرار المعيشي والإستثماري!
بناءً على ما تقدم، يصبح حال برجا الكبرى على الشكل التالي: منطقة قررت الدولة اعتبارها صناعية، وقسمتها إلى مناطق، دون دراسة ومراقبة تحمي المستثمرين والسكان على السواء!
نتيجة لذلك، غرقت منطقتنا بفوضى البلوكات الإسمنتية المحاصرة بمصانع مزعجة ملوثة، منعت الحياة الهادئة لسكانها دون أن تحقق في المقابل البحبوحة المرجوة من الإستثمارات لهؤلاء السكان.
وسيبقى البرجاوي ناقماً على هذا الواقع وفي صراع معه إلى أن يشاء الله ويقضي أمره!
ولكن، ألا يوجد حل يعيد للبرجاوي الطمأنينة، وينصف المستثمر؟!
للحديث بقية …
نشر في العدد الأول من “برجا الجريدة” كانون الثاني 2018