“برجا” اللبنانية … على جدرانها “انتفاضة” ألوان بصبغة تراثية وعصرية
على خطى العديد من بلدان العالمين الغربي والعربي، اختارت بلدة “بَرْجَا” اللبنانية التخلّص من نمطية اللون الأبيض، وطلي جدرانها بألوان متعددة، معلنة “انتفاضة” من نوع خاص تجمع بين الطابعين التراثي والعصري.
فكما تحوّلت مدن “روكلو” في بولندا و”هافانا” في البرازيل و”جوزكار” في إسبانيا، وبعض المدن العربية في المغرب وتونس، تغيّرت أيضا بلدة برجا، في سابقة تعتبر الأولى من نوعها في لبنان.
البلدة التي ما تزال تحتفظ بآثار زلازل أرضية هزتها في أربعينات وستينات القرن الماضي، فجّرت المبادرة في شرايينها معالم حياة “ملوّنة” أضفت عليها الكثير من الحيوية بعد تزيين جدرانها، وفق سكانها.
– ألوان لـ “تزيين” الواقع
تُعتبر “برجا” المطلة على ساحل البحر المتوسط، من أهم قرى محافظة جبل لبنان (غرب)، نظرا لأهميتها التاريخية والسياسية.
ورغم افتقار البلدة للبنية التحتية اللازمة، إلا أنها استطاعت المحافظة على أهميتها عبر العصور، حتى أنّ اسمها مشتق من اللغة اليونانية (طبارشيا)، ويعني “العاصمة” أو “مركز المقاطعة”.
“إهمال” يعاني منه سكان البلدة دفع في الآونة الأخيرة بعدد من الشباب الناشط – على رأسهم الشيخ جمال بشاشة – إلى “التمرّد” على الواجهة النمطية لجميع المباني، سواء كانت قديمة أم جديدة، بتلوينها.
ويبلغ عدد سكان برجا 31 ألف و500 نسمة، يعمل معظمهم في وظائف حكومية.
فكرة التلوين طُرحت منذ سنوات، غير أن تفعيلها تطلّب بعض الوقت، لتتجسّد في شهر رمضان الماضي (وافق معظمه يونيو/حزيران)، حين قام الشيخ بشاشة مع مجموعة من الشباب بتلوين بعض الأحياء وتزيينها، استعدادا لقدوم الشهر الفضيل.
ولاقت الخطوة استحساناً كبيرا من قبل السكان، ما شجّع “بشاشة” وصديقه الرسام التشكيلي، نبيل سعد (ابن البلدة)، على اتخاذ قرار تلوين جميع مباني البلدة.
احتاجت الفكرة ميزانية مالية لتنفيذها، فكان أن تطوّع سكان المباني بدفع جزء من تكاليف طلاء الجدران، رغبة منهم في إضفاء لمسة جمالية على منطقتهم.
أما بقية الميزانية، فتم جمعها من تبرّعات في مسجد البلدة.
غير أنّ تجميل البلدة التاريخية التي تعتبر خاصرة “الشوف”، أهمّ أقضية محافظة جبل لبنان، على حدّ تعبير نوّاب برلمانيين وزعماء المنطقة، لن يتوقف عند حدود التلوين، بل هنالك مشاريع تشجير وإقامة منحوتات صخرية في ساحة برجا، وفق بشاشة.
– ألوان تجمع الطابعين التراثي والعصري
نبيل سعد، الفنان التشكيلي الذي تكفّلت ريشته بإضفاء لمسات ساحرة على جدران البلدة، قال للأناضول، إنّ “معظم البيوت كانت تبنى بشكل تقليدي قديم، وتتميّز بأسقف قرميدية لافتة”.
وأضاف “نحاول، تبعا لذلك، المزج، في نسختنا الجديدة للألوان، بين الطابعين التراثي والعصري، عبر اعتماد ألوان متناسقة وطبيعية غير مركّبة”.
وتابع أن ّ”الألوان الطاغية هي ألوان طبيعية متناغمة على أساس علمي، بينها الأزرق والأحمر والأخضر، كما نتحاشى خلط الألوان حفاظا على الصفاء والمنظر الطبيعي لمعمار البلدة”.
ووفق سعد، فإنّ حملة التلوين “ستشمل المنازل الأخرى في البلدة المقسّمة إلى 3 أقسام، أبرزها ساحة العين التراثية حيث كانت تقام حفلات غنائية ومهرجانات ثقافية وحملات انتخابية”.
ويفتقر قسم من البلدة إلى تصاميم هندسية متوازنة، جراء الزلازل التي شهدتها منطقة إقليم الخروب (يضم 32 قرية بينها برجا)، في أربعينات وستينات القرن الماضي.
وبحسب بشاشة، تتميز منازل البلدة بتلاصقها، كما أنها شيدت قرب نبع ماء غزير، على ثلاثة تلال، تحسّبا لزلازل مماثلة.
لكن، وبسبب هذه الكارثة الطبيعية، لم يهتم أحداً بتأهيلها، رغم الاهتمام البالغ الذي تحظى به القرى المجاورة من قبل زعماء قضاء الشوف، وفق المصدر نفسه.
– برجا وفلسطين.. علاقات تاريخية
تماما مثلما يمتزج المعمار القديم بالعصري في برجا، استقر بهذه البلدة، على مر العصور، خليط من شعوب عديدة، أبرزهم الكنعانيون والآراميون، ومن ثم الرومان.
الشيخ بشاشة، لفت إلى وجود علاقة تاريخية وصلة دم تربط بين أهل فلسطين وبرجا، حيث قاتل أبناء البلدة إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين في ثلاثينات القرن الماضي ضد الإحتلال الإنجليزي.
ومنذ القدم وحتى القرن التاسع عشر، اشتهر أبناء البلدة بتجارة الأقمشة والحياكة، وكانوا يعتبرون من أهم التجار في الشرق الأوسط، حتى أن صيتهم ذاع في مصر وسوريا وفلسطين.
وخلال نكبة فلسطين المحتلة عام 1948، تم تهجير عدد كبير من الفلسطينيين إلى برجا، حيث استقروا فيها، وحصلوا على الجنسية اللبنانية، ودوّنت سجلاتهم بالبلدة المعروفة في لبنان بقوميتها وعروبتها وانفتاحها.
واللافت أنّ هنالك أسماء عائلات موجودة في برجا وفلسطين، تربطها قرابة، فمن اللبنانيين من سكان برجا من استقر بفلسطين لممارسة التجارة، ومن الفلسطينيين من فضل الإقامة في برجا للسبب نفسه.
– كهوف ومغارات من العصر الحجري
تضم البلدة عشرات الكهوف والمغارات الشبيهة بالمدافن، والمحفورة في أعلى الصخور الشاهقة، وتضم نواويس حجرية تعود إلى العصر الحجري الحديث.
واكتشف باحثون أجانب زاروا البلدة وجود رسوم ونقوش في مدخل بعض المغارات والأواني التي عثر عليها حين حفرت ركائز بيوت حديثة.
وخلص هؤلاء الباحثين إلى أن تلك النقوش تشكّل بقايا أقوام تعاقبت على هذه المنطقة، مثل شعوب بلاد الرافدين والفرس واليونان والرومان والبيزنطيين.
كما عثر في القرن التاسع عشر على نواويس (توابيت الموتى) محفورة في كتل صخرية، تمثّل قبور كهنة فينيقيين وغيرهم من الشعوب الوثنية.
ووفق الباحثين، فإن تلك النواويس كانت تحفر بعيدا عن مساكن ومقابر الرعية ممن كانوا يدفنون في مغارات مخصصة لهم، وهي عبارة عن مدافن قرب السواقي والوديان في البلدة العتيقة.
http://aa.com.tr/ar/التقارير/برجا-اللبنانية-على-جدرانها-انتفاضة-ألوان-بصبغة-تراثية-وعصرية/945978