مسجد شكيب ارسلان في المختارة.. بعد الكنيسة
كتبت كلير شكر : أنّ يورّث وليد جنبلاط نجله تيمور بعض عدة الزعامة، ومنها استقبال الوفود الشعبية كل نهاية أسبوع في المختارة، لا يعني أن الزعيم الدرزي قرّر التقاعد. قد يكون ميالاً الى التخفيف من أعباء الواجبات السياسية والاجتماعية لمصلحة الإكثار من سفراته الخارجية أو تجواله اليومي عبر الفضاء الافتراضي، لكنه حتماً يبقى في قلب الحدث. الحدث الدرزي واللبناني. ودائماً على طريقته الخاصة.
في هذه الأيام، يختصر جنبلاط مقاربته السياسية للواقع اللبناني والإقليمي بتعبير يقوله بلا مواربة: «هدفي الوحيد هو الحفاظ على البقاء… والبقاء هنا يعني إقامة علاقات جيّدة مع مختلف مكوّنات البلاد، وعلى رأسها «حزب الله». هذا هو السبيل الأسلم ليتمكّن الدروز من البقاء والحفاظ على ما تبقّى لهم سياسياً وديموغرافياً».
إذاً، هو هاجس البقاء، أو بالأحرى الصمود ولو اقتضى إحناء الرأس في زمن الحروب الكبرى. هذا ما يفسّر مثلاً، أن يدشّن جنبلاط كنيسة ومسجداً في المختارة في مناسبتين يفصل بينهما أربعون يوماً فقط. الحدث الأول حصل تحت عنوان الذكرى الـ15 لمصالحة الجبل، أما الثاني، فحمل تكريماً لوالدته مي وأطلق على المسجد اسم جده شكيب ارسلان. وللمسألة أيضاً دلالتها.
ففي ذروة الصراع المذهبي المتأجج في المنطقة والذي قد يحتاج الى عقود من الزمن كي ينتهي وربما الى خرائط ووقائع جديدة، يحرص رئيس «الاشتراكي» على «تسييج» بيئته، وإبعاد ناسه عن خطوط النار الطائفية. تراه يحصّن زعامته، التي تعبر معموديتها الانتقالية الى تيمور، بتفاهمات الحدّ الأدنى.
هكذا، يرفض جنبلاط تجيير كتلته النيابية الى أي من الموارنة المتصارعين على الكرسي، لإدراكه ربما أنّ ساعة الحسم لم تأت بعد، وأنّ أوان التسوية الكبرى لم يحن بعد، ولعدم رغبته في كسر الجرّة مع أي من القوى المسيحية طالما أنّ بورصة التطورات الإقليمية تتغيّر ويصعب تحديد مسارها مسبقاً.
وبالطريقة ذاتها يحافظ على علاقته مع سعد الحريري، المصاب بالوهن والضعف بعدما صار هدفاً.. ومستهدَفاً. تقتضي هذه السيبة الثلاثية للجبل بأن يصون جنبلاط توازناتها بدقّة، وأنّ يُعيد تأكيد «الانتماء الإسلامي للموحدين الدروز». لذلك، من الطبيعي أن تتحوّل مناسبة تدشين المسجد الى احتفالية احتضانية للطائفة السنية في قلب المختارة.
لهذا ثمّة مَن يقول إنّ جنبلاط رفض أن يمر احتفال تدشين كنيسة الدرّ العجائبية مرور الكرام. كان لا بدّ من تحويله من جمعة عائلية مصغرة الى مهرجان يعيد إحياء مشهدية الزيارة الأولى للبطريرك نصرالله صفير الى الجبل. ليصير أيضاً مشهد الاحتفال الجامع الموسّع لتدشين المسجد الذي يُقال إنه بُني في أيام بشير جنبلاط، تتمة طبيعية لـسر «الخلطة الجنبلاطية».
إذاً، المناسبة هي تكريم مي جنبلاط في الذكرى الثالثة لرحيلها، ومعها سيرة والدها شكيب ارسلان. الكاتب والأديب والمفكر الذي اشتهر بلقب «أمير البيان»، وبكونه واحداً من كبار دعاة الوحدة الإسلامية. الرجل الذي صدرت لأجله أول صحيفة عربية في الولايات المتحدة، فاختارت في عددها الأول أن تعد ملفاً عنه خصص مردوده لإقامة نصب له هناك.
ومع ذلك مَن يعرف جنبلاط جيداً يدرك أنه لم يقم بمجرد التفاتة عاطفية تجاه والدته، لما كان لها من حيّز واسع في التأثير في حياته وثقافته «ووقفت إلى جانبي ولم تتوانَ عن تقديم النصيحة السديدة وتصحيحِ هفواتي عند اقتضاء الأمر»، وإنما لخطّ سمة جامعة يريدها للمختارة، لذا حرص كما زوجته نورا على متابعة دقائق الاحتفال وتفاصيله كافة حتى آخر لحظة.
مشهدية حملت المفتي عبد اللطيف دريان الى عمق الجبل ليلقي على مسامع زعيمها كلمة استغرقت أكثر من عشر دقائق، فاضت بلاغة في الكلام وفي شرح تاريخ وعروبة وإسلام بني معروف… كما حضر الرئيس فؤاد السنيورة والنائب بهية الحريري ممثلة الرئيس سعد الحريري، «الأمير النسيب» طلال ارسلان وخالته الأميرة ناظمة ارسلان. ومن أبرز المشاركين ممثل الرئيس نبيه بري النائب علي بزي، شيخ عقل الدروز نعيم حسن، ممثل البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الأباتي سعد نمر، ممثل نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان المفتي الشيخ احمد قبلان.
باعتقاد البيك الدرزي، مع هذه «الجمعة» يجعل «جبله» ساحة تلاقٍ لا ساحة اقتتال، لأنه يريد عبور مطبات الصراع الحاصلة خلف الحدود، بسترة نجاة، اسمها «الاعتدال».
وقال جنبلاط خلال الاحتفال إنّ «التطورات التي شهدها ويشهدها العالم من خلال تخطي الإرهاب لحدود الدول والقارات تجعل من مسألة تجديد الفهمِ الديني للوقائع المتسارعة مسألة حتمية لا تحتمل النقاش والتأويل. وهذهِ مسؤولية جماعية سيولد تأخيرها مفاعيل سلبية على كل المستويات»، لافتاً الى أنّ «بناءَ هذا المسجد إنما يؤكد على الانتماء الإسلامي للموحدين الدروز».
بدوره، قال المفتي دريان إننا نعوِّل على حكمة القياداتِ السياسية، ومساعي المُخلِصين، ودعاء رؤساءِ الطوائفِ اللبنانية، أن تنفرج أزمتنا السياسية، بانتخاب رئيسٍ للجمهورية، «فالتأخير بعد اليومِ انتحار، والى متى الانتظار حتى انهيار الدولة ومؤسساتها بالكامل. أمّا الحوار الوطنيّ المعلّق، فنأملُ من القادةِ السياسيين التفاهم لتنطلق عجلة الحوار من جديد، لأنَّ هذا مطلب اللبنانيين جميعاً. وحكومتُنا ينبغي أن تبقى صامدةً صابرة، وأن تعملَ جاهدةً لاستئناف جلساتها بحضورِ جميعِ وزرائها». وهنّأ جنبلاط بسلامته من محاولة اغتياله.
«أمير البيان»
اختزل مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان مسيرة شكيب ارسلان بالآتي: «منذ عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، كان «أمير البيان» قد صار عَلَماً كبيراً في مجالات النضال، من أجل الاستقلال العربي، والنهوض والإصلاح الإسلامي. وعندما توفاه الله في العام 1946 بعد شهور على عودته من المنفى الذي استمر حوالي ثلاثة عقود، كان يساوره ارتياح عميق للاستقلالات التي توالت في لبنان وسوريا، ومصر والعراق والمغرب، ويسايره في الوقت نفسه قلق عميق، لأن الوحدة العربية لم تتحقق، ولأن المشهد في فلسطين ما كان يبعث على الاطمئنان».
وتابع: «في العام 1916 ذهب الأمير شكيب للقتال في ليبيا ضد الغزو الإيطالي. وفي العام 1925 ناضل بالكتابة والتوعية، والدعم السياسي والمادي، إلى جانب الثورة السورية، وفي ما بين العامين 1926 و1929 ثابر على دعم ثورة الريف المغربي، بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي. وفي العام 1936 ناصر الثورة الفلسطينية على الاستعمار البريطاني، والاجتياح الصهيوني. ولعل أحدا في تاريخ العرب الحديث، ما استعمل الصحافة والتأليف والعلاقات السياسية، بقدر ما استعملها الأمير شكيب أرسلان، من أجل استقلال العرب وحرياتهم، ومن أجل اجتراح مشهد آخر للإسلام، في معركة النهوض الحضاري والثقافي».
عم جريدة السفير 19 أيلول 2016