بيروت والمناطق بين دخان الحرائق.. والاعتراضات الشعبية
بدت بيروت، وما تزال، غريبة عن نفسها، عن سكانها، وزوارها. لا نعرفها ولا تعرفنا. بيروت البهية الجميلة الصابرة المتحملة، تحمل نفاياتنا وتتحملها، بينما الكمامات تغزو وجوهنا، والروائح تخترق بيوتنا وتفترش طرقنا يميناً وشمالاً.
الطرق، في اليومين الماضيين، بدت شبه مقفرة من المارة: سحب الدخان ترتفع ليلاً إلى السماء، فيما مستوعبات النفايات تتدحرج بين السيارات، يسير خلفها شبان يعبّرون عن غضبهم وسخطهم بحرق ما استطاعوا إليه سبيلاً: حتى منتصف ليل أمس، تم إغلاق الشوارع في كورنيش المزرعة ورأس النبع وبشارة الخوري، للتخلص من النفايات عبر حرقها ودفعها إلى الطرق، واعتراضاً على تراكمها أمام البيوت، بينما كان أهالي إقليم الخروب يستمرون بقطع الطريق الأساس الذي يربط المدينة بالجنوب.
وسط ذلك، بيروت تنتظر، المناطق تعترض. المواطنون في حيرة، لا يتوقفون عن سؤالهم العبثي الأزلي:
«أين هي الدولة؟».
من الإقليم إلى البقاع
منذ ساعات الفجر الأولى، تجمع عدد من أهالي منطقة إقليم الخروب (أحمد منصور) وبلدياتها، للتصدي لقرار الحكومة ووزارة البيئة والسياسيين بمختلف تلاوينهم، للتخلص من نفايات بيروت والجبل، ودفنها في الاقليم.
وشهد مدخل معمل ترابة «سبلين»، كونه الموقع المقترح لنقل النفايات الى محيطه، تجمعاً للأهالي والشباب من مختلف قرى وبلدات الإقليم، ونصبوا الخيم عند المدخل ونفذوا اعتصاما مفتوحا للتصدي لأي شاحنة نفايات قد تدخل الى حرم المعمل.
لم يكن مشهد الجية أقل سخونة، حيث نفذ حشد كبير من الأهالي اعتصاما على مسربي الاوتوستراد الساحلي في الجية عند مفرق برجا، وعمدوا الى إقفال الطريق بالشاحنات والعوائق والحجارة والردميات، فيما تقدم المعتصمون رؤساء بلديات برجا نشأت حمية والجية الدكتور جورج نادر القزي وسبلين محمد خالد قوبر ومزبود محمد حبنجر وبعاصير أمين القعقور وجدرا الاب جوزف القزي، ومشايخ ومخاتير وأهالي وشبان ونساء وأطفال من مختلف الاعمار، وأطلق الجميع الهتافات ضد تحويل الاقليم مكبا للنفايات.
وقال المعتصمون إن الطريق لن تُفتح قبل صدور بيان رسمي عن الحكومة، يؤكد «أنه لن يكون هناك أي مكب للنفايات في إقليم الخروب»، لافتين إلى توقيف أربع شاحنات كانت محملة بالنفايات في السعديات لجهاد العرب، آتية من بيروت، وصادروا مفاتيحها، ثم وجهوا إليه انتقادات لاذعة لأنه سبق ووعد بأنه «لن يعمل في هذا القطاع».
وفي برّ الياس (سامر الحسيني)، لم يمر تسريب خبر نقل كميات من نفايات بيروت إلى المنطقة مرور الكرام عند أهالي المنطقة، الذين أعلنوا منعهم مرور أي شاحنة نفايات، مؤكدين رفضهم لما وصفه بعض فعالياتها «الطريقة التي اتبعها الوزير محمد المشنوق المنتمي الى طبقة بيروتية تحمل الكثير من الفوقية والتعالي على أبناء الأطراف، وهي الطريقة التي لطالما اتبعها كل السياسيين في بيروت، الذين يحتفظون لأبنائهم بالوظائف الاولى والمناصب ويهمشون ابناء الاطراف من فقراء البقاع وعكار، ويطالبونهم اليوم بأن يكونوا مكبا لنفاياتهم، وهذا الامر مرفوض ولا يحول دونه إلا الموت».
وأبلغ النائب عاصم عراجي وزير البيئة محمد المشنوق رفض أهالي بر الياس نقل أي كميات من النفايات الى بلدتهم أو الى بلدة اخرى، فيما نقل عراجي عن المشنوق «عدوله عن هذا القرار»، إلا أن ذلك لم يبعث على الطمأنينة في نفوس أهالي بر الياس وجمعياتها المدنية والاهلية والبلدية والاختيارية، التي أعلنت بقاءها في حالة طوارئ لمنع مرور أي شاحنة نفايات الى مكبها العشوائي، في ظل الحديث عن محاولات يقوم بها بعض المتعهدين في بر الياس مع البلدية لإقناعها بعدم الاعتراض على نقل النفايات.
وكانت بر الياس قد أعلنت رفضها لنقل النفايات الى خراجها أو الى مكبها العشوائي، ونظم عدد من شبانها وجمعياتها المدنية وقفة احتجاجية على الطريق الدولية مساء امس عند احد مداخل البلدة، معلنين مواجهتهم «الصارمة لمرور أي شاحنة من النفايات آتية من بيروت».
وبدا أن الرفض المطلق في شأن احتمال نقل النفايات إلى البقاع ليس محصوراً في بر الياس، بل شهد توافقا مع عدة بلديات بقاعية، ومنها زحلة التي رفضت محاولة نقل كميات من النفايات الى مطمرها الذي يعاني بدوره من عقبات عدة.
صيدا: «بحرٌ» من الشائعات
تعيش عاصمة الجنوب صيدا (محمد صالح)، وسط «بحر» من الشائعات التي تتحدث عن مواعيد لنقل مئات الاطنان من نفايات بيروت الى معمل الفرز والمعالجة والى البحيرة المستحدثة بجانب المعمل، التي تحولت الى مكب ومطمر للنفايات والعوادم تنبعث منها الروائح الكريهة، حيث عادت تنتشر في أجواء المدينة.
وفيما بقيت المواقف على حالها، بدأ العديد من الناشطين المحليين بالتبرع بالحراسة والسهر حول معمل الفرز والمعالجة ومدخله، وبجوار البحيرة بهدف مراقبة الطريق والتأكد من هويات الشاحنات المحملة بالنفايات من أجل منع نقلها الى صيدا.
وكانت مشكلة نفايات بيروت ومسألة إيجاد البدائل لاستيعابها في المناطق، قد فتحت النقاش من الباب العريض في عاصمة الجنوب كونها المعنية المباشرة في هذا الموضوع، لأن إدارة معمل فرز ومعالجة النفايات المنزلية الصلبة الموجود في المدينة قد صرحت في أكثر من مناسبة بأن المعمل هو مشروع استثماري وعلى أهبة الاستعداد لاستقبال أكثر من 300 طن يوميا من النفايات الجديدة، بالإضافة الى النفايات التي يستقبلها المعمل ويعالجها من صيدا ومنطقتها في الزهراني والتي تبلغ 200 طن يوميا.
وفتح النقاش في المدينة أكثر من زاوية وتحول الى صخب وتساؤلات في الشارع الصيداوي من جديد، حول مسألة نسبة العوادم التي تخرج من النفايات المعالجة، والتي تبلغ نسبتها أكثر من 25 في المئة وتلقى في البحيرة المستحدثة بجوار المعمل، ثم تردم بالاتربة وهي غير قابلة للمعالجة والتي ستبلغ نسبتها ما يزيد عن 125 طنا من العوادم يوميا، ما يعني جبلا جديداً من النفايات سيولد في المدينة.
كسروان: حلول.. لا حلول؟
أمضى سكّان كسروان والمتن («السفير») يوم عطلتهم أمس بين أكياس النفايات التي كانت لا تزال تملأ شوارعهم. منهم من تحمّس لحرق ما تجمّع أمام منزله، ومنهم من فضّل ترك بيته صوب مناخ أفضل وأكثر نقاء. لكنّ شيئاً لم يبدّل من منظر الأكياس السوداء والزرقاء المكدّسة بعضها فوق بعض، وقد نثرت فوق جزء منها مادة الكلس.
وكان أهل المتنين وكسروان مثل غيرهم من اللبنانيين قد استبشروا خيراً بالخبر الذي أفادهم بأن «سوكلين» استأنفت عملية جمع النفايات، فعدلوا عن التفكير بإيجاد حلول مبدئية حاولوا تطبيقها كأفراد أو كمجموعة.
في الزلقا، كاد ريشار أن يحرق النفايات المكدّسة في الشارع على أساس أن «حرقها أفضل من بقائها وجذبها للحشرات والجرذان والأمراض». لم يتحمّس للفكرة أي من جيرانه الذين خافوا من إحداث حريق كبير ينقلهم من مشكلة إلى أخرى. بينما تكاتف أهل حيّ من أحياء إنطلياس لنقل النفايات في «بيك آب» أحدهم من الشارع إلى قطعة أرض «هاجر صاحبها منذ زمن ولم يعد». ثم انكفأوا بعد شيوع خبر إزالتها من قبل «سوكلين».
تلك الحلول لم تكن تلائم رؤساء البلديات في القضاءين وفق ما أفاد أحدهم رافضاً ذكر اسمه. وقال لـ «السفير»: «بدأنا في المجلس البلدي نفكّر في طريقة لإزالة النفايات وإطلاق مبادرة مؤقتة لأننا ندرك أن هذه الحكومة، كما سابقاتها، لن تأتي بحلول سريعة. وكنا في الوقت نفسه نرسل عناصر الشرطة للتجوال في شوارع البلدة خوفاً من إحداث حريق أو اتخاذ مبادرات فردية قد لا تحمد عقباها في ما بعد. وظننا أن المشكلة قد حلّت صباح اليوم (أمس)، لكن يبدو أننا سنضطر إلى إيجاد الحلّ بأنفسنا».
عكار: تعاوننا مقابل إنصافنا
تراجعت حدة الاعتراض حيال قضية نقل النفايات من بيروت وضواحيها والجبل إلى المكبات الموجودة في أكثر من منطقة، ومنها عكار (نجلة حمود)، التي حددت حصتها بـ500 طن يوميا، وذلك لسببين: الأول، نفي كل ما كان قد نشر على مواقع التواصل الاجتماعي من دخول لشاحنات محملة بالنفايات الى عكار، الأمر الذي كان قد أثار بلبلة كبيرة في الشارع، وأدى الى قطع الطرق قبل أن يتضح أنها مجرد شائعات.
أما السبب الثاني، فهو تحرك عدد من نواب عكار وفعالياتها، وفي مقدمهم النائب معين المرعبي، الذي ربط مشكلة النفايات بملف الإنماء في عكار وحرمانها من حقوقها على مدى الحكومات المتعاقبة.
وأكد المرعبي أن «موضوع إدخال النفايات الى عكار بات وراءنا، إذ لمسنا تفهما كاملا من وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي طمأننا الى ان هذه المسألة لا يمكن ان تحصل إلا برضى أهالي عكار»، مشيراً إلى أن «عكار مستعدة لتحمل حصتها من النفايات من بيروت الادارية فقط، لكن مقابل نفس الحصة التي تحق لنا من الإنماء، إذ لا يمكنهم استدرار عطف عكار الوطني بينما يحرمونها من حقوقها: فرع للجامعة اللبنانية، إقرار مشروع الأوتوستراد العربي، إنصاف حصة عكار المالية بـ16 في المئة، لا واحد في المئة».
ومن المطالب الملحة في عكار، تأهيل مكب سرار لمعالجة النفايات وطمرها بطريقة علمية من شأنها منع استمرار العصارة من الوصول الى المياه الجوفية، وبالتالي تخفيف الأضرار الصحية والبيئية عن عكار.
عودة المكبات القديمة!
عادت المكبات العشوائية القديمة إلى وادي لامرتين في المتن الأعلى (أنور عقل ضو)، إذ لم تجد البلديات أمامها خيارات سوى استخدام المكبات القديمة، وهي تقوم منذ أيام ثلاثة بجمع النفايات ونقلها إلى هذه المواقع. وما يثير مخاوف وقلق المواطنين أن طريق رأس المتن ـ المونتيفردي ـ بيت مري يصعب سلوكها في بعض الأماكن بسبب الروائح المنبعثة، فيما البلدات البعيدة نسبيا على وادي لامرتين، تجمع النفايات على ارتفاع لا يقل عن الالف متر، ما يعني أن تأثيراتها على مياه الينابيع الجوفية ستكون كارثية في الأشهر القليلة المقبلة.
وأعيد افتتاح «مكب المونتيفردي» من قبل بلدية بيت مري، وأشار أبو رسلان إلى أن «الأمر أيضا هو بنفس خطورة الوضع القائم في رأس المتن، حتى أن المواطنين بدأوا يشكون من الروائح المنبعثة على طريق عام المونتيفردي وعلى مقربة من مبنى الـ(او تي في)».
أما على صعيد اتحاد بلديات المتن الأعلى، فيعيد الاتحاد صيانة بعض المعدات القديمة ليتمكن من رفع النفايات، لكن ليس هناك خطة لاستحداث مكب أو بناء معمل للفرز، وأشار رئيس بلدية القرية الى أن «المشكلة في إيجاد الأرض باتت مثل كرة نار تتناقلها البلديات في ما بينها».