أبو سمير والمجاهدون وسيدة الميْدان
كتب الشيخ جمال جميل بشاشة :
من بلدة ثور في محافظة ماردين التركية ذات الطبيعة الخلابة شدّ رحاله إلى برجا .
كان عمره حينذاك سبعة عشر عاماً .
يتحدر من عائلة “شليك” الجبلية التي تنتشر في ” ثور” و” الراشدية ” و” أربيل” و” المخاشنية ” التي تتناثر في جبال تبعد عن شمال سوريا حوالي 100 كلم .
هو من مواليد 1953 والده محمّد ووالدته نعيمه .
له من الإخوة والأخوات 16 نفساً .
حصل على الجنسيّة اللبنانيّة عام 1994 واسمه في سجلات نفوس برجا : ” بدر محمد شيخو ” سجل 719 .
يكنّى في البلدة ” أبو سمير الكرديّ ” .
رجل همام محترم ، سيرته محمودة .
ما أكل إلا من عرق جبينه ، وما عرفه البرجاوييون إلا صاحب خلق عال, وفيّ , دافئ اللسان .
طباع أهل الجبال تغلب على سلوكه وحياته في الكرم والعزيمة والصدق والترفع .
حفظ نفسه من كل الشرور التي نزلت بلبنان منذ فتنة العام 1975 وحتى هذه الأيام , فلم ينخرط في تلك الفوضى التي دبّت في البلاد ,بل آثر أن يبتعد عن أهوائها ومفاسدها .
رجل فاعل , يضرب في الأرض منذ أن حل في برجا الشوف .
حين كان يفتّت الصخر من عين الصغير إلى مرج برجا أول قدومه لشبكة مياه الباروك , أعجبته ساكنة ” المراح ” سميرة أحمد معروف رمضان المولودة عام 1940 , فكانت ” أم سمير ” .
أنجبت له بنين وبنات ، وعاشا على الحُلوة والمرّة إلى أن توفّاها الله عام 1996 .
لهما حكاية ماتعة قي الشرف والغيرة على الأهل وحب الوطن والذود عن المجاهدين .
تقول الحكاية :
خريف العام 1982 وكان العدوّ الصهيوني قد اجتاح لبنان حتى تجاوز شمال بيروت , وأعمل آلته الحربية قتلاً وتدميراً وإجراماً أينما حل ونزل .
وكان العدو قبل ذلك قد تمكن من جبل لبنان في أيام معدودة واعتقل المئات من المقاومين , فيما فر آخرون إلى نواحي البقاع والشمال .
برجا الشوف عاشت أشد أيامها سواداً طوال فترة الاحتلال من حزيران 1982 إلى مطلع أيلول 1983, ومع ذلك لم تستكن ولم تستسلم رغم ما عانته من ويلاته وتضييقه وبثّه العملاء وإطلاق العنان لهم في الابتزاز والتهديد وسط الأهالي .
شرارة الانتفاضة انطلقت من برجا , وعلى همة أبطالها النجباء في المقاومة الوطنية اللبنانية في غير موقعه وكمين , ولعل أهمها عملية وادي الزينة التي صارت على كل شفة ولسان .
خريف ذلك العام تداعى ثلاثة من شباب برجا الشوف في الحزب الشيوعي , هم ( ع . ف . س ) و ( م . ع . د ) و ( خ . ع . س ) تقودهم النخوة الوطنية إلى التفكير في إيذاء العدو والنيل منه والانتقام للأرض وللعرض .
أخذوا يراقبون قوافل العدو الاسرائيلية التي تجوب الساحل والجبل فاستقرّ الرأي على أن يكمنوا لدورية من دورياته التي تقطع ساحل الشوف تحت تلة زاروت البرجاوية .
بدأ مشوار المقاومين الثلاثة سيراً على الأقدام – حيث لم تكن أي طريق قد شقت حينها – من برجا القديمة إلى الميدان مروراً بكروم برجا وصولاً إلى تلة زاروت , وبالتحديد إلى الموقع الذي يقوم عليه بيت الحاج إبراهيم محمد بدر ، حيث الطريق الساحلي على مرمى حجر .
في حي الميدان وكانت شمس ذلك النهار قد بدأت تميل إلى الغروب ، والبرد مثل المسمار والرياح تشتدّ ، كان الزوجان ” أبو سمير ” وزوجته يشعلان حطب الموقد أمام دارهما والصغار من حولهما والدنيا تؤذن بمطر غزير وليلة شديدة .
المقاومون الثلاثة يحملون السلاح والعتاد في أكياس (مروا عليهما فتدفأوا حيناً ثم أكملوا سيرهم باتجاه هدفهم ) .
أم سمير تعرفت عليهم ، فهم من شباب بلدتها ومن بني جلدتها .
فهمت مرادهم ودعت لهم في سريرتها بالحفظ والنصر والتوفيق .
على صخور زاروت وعلى المنحدر فوق الساحل , كمن المقاومون البرجاويون الثلاثة بانتظار أي قافلة للعدو تمر تحتهم .
الليل بدأ يرخي سدوله, والترقب سيد الموقف , والشباب في أهبتهم الكاملة , مستنفرين يقظين يحبسون الأنفاس .
من بعيد بدأ صوت أليات العدو يتسلل إلى الأسماع .
دورية هي لا شك في ذلك !
تهامسوا وأخذوا جهوزيتهم بعد أن صار الصوت يقترب ويعلو .
رتل من المجنزرات والآليات والباصات يشق طريقه أتياً من جهة الدامور إلى الجية متجهاً إلى صيدا في الجنوب .
ترك المقاومون الرتل يمر في غالبيته إلى أن بقي منه شاحنة وباص في مؤخرته عند مسمكة كامل إبراهيم بشاشة على بعد عشرات الأمتار من المعمل الحراري .
ضُربت الشاحنة بقذائف صاروخية فاصطدمت بالباص الذي كان يحمل جنود العدو ، الذي اقتحم بدوره عامود حديد جانب الطريق .
علا صراخ المحتلين واضطرب جمعهم إثر هذه المباغتة .
الحصيلة ستة قتلى والعديد من الجرحى .
إنسحب المقاومون الثلاثة , وعادوا أدراجهم عبر الكروم إلى برجا حيث تفرقوا .
جيش العدو يطوق المنطقة , يكثف من تحركاته في القرى والبلدات المطلة على ساحل الشوف مركزاً على برجا وبعاصير , يعتقل من يشتبه بهم , يداهم البيوت , يضيق على الناس , ويمشط كروم برجا ومنحدرات زاروت .
أم سمير لزمت بيتها وزوجها .
دوريات العدو الراجلة لا تكاد تنقطع من حولها, ساورها القلق من أن يعتقلوا أبا سمير , وأنه يمكن أن يضعف تحت الضغط والتهديد فيدلّ على الشباب المقاومين الذين عبروا إلى وجهتهم من أمام بيتها ونفذوا العملية , وهو يعرفهم واحداً واحداً .
ماكان أبو سمير أقلّ من زوجته قلقاً على ما يمكن أن يقوم به العدو وهو يذرع كروم برجا جيئة وذهاباً.
هو ابن الجبل ، يحمل قيم الوفاء للبلدة التي احتضنته وآوته وزوّجته واحدة من بناتها , وما بخلت عليه في موقف .
هو اليوم سيكون أكثر تمسكاً بقيمه التي ما تخلى عنها في حياته العادية فكيف بأيام الشدائد !!
قالت له زوجه ، وكانت امرأة من المعدودات في بلدتي همة وعملاً وكدحاً :
” يا بو سمير نتبه ” !
” أجا بعرفك حكيت ع ولاد بلدي ” .
” وأجا سألوك وقلت : مين مرق ومين ما مرقشي والنبي بـ دبحك ع عتبة البيت ” .
كان ذلك في تلك الليلة التي ضرب فيها العدو حصاره على داره .
قعقعة السلاح تعالت خارج البيت ,أصوات جنود الاحتلال أخذت ترتفع :
أبو سمير مطلوب !!!
في تلك الليلة اعتقل أبو سمير واقتيد إلى التحقيق .
إسودّت الدنيا في عيني أم سمير ، وضاق عليها الأمر .
عيالها صغار والحال ضعيف .
خافت من أن يضعف زوجها فيخبر عن مجاهدي بلدتها !
وأين تضع رأسها أمام الناس إن فعلها أبو سمير ؟ .
مرت الأيام ثقيلة عليها ونساء الضيعة لا يفارقنها ، يواسينها .
غلب على ظنها أنه لن يعود .
هو لا يحمل جنسية لبنان وتهمة العدو حاضرة : مخرّب جاء به من بلاده المخربون !
كلما مضت ساعة من نهار كان أملها يتضاءل .
ظهيرة ذلك اليوم وقد استسلمت لإغفاءة نوم ، تسلل إلى سمعها من العالي ، من بيادر القراق ، زغردات و عبارات تهاني :
” الحمد لله ع السلامه يا بو سمير ” .
هرعت تشتدّ ناحية الصوت حافية القدمين !
عاد الرجل …
عاد منتصب القامة , مرفوع الهامة .
رجع أبو سمير إلى أهله وداره , صبر وتحمل وما تفوّه بكلمة عما رأى ومن شاهد .
إبن الأصل يبقى أصيلاً .
( الصورة المرفقة لأبي سمير ) .