لمّا كانت برجا عالية الهمة !!
كتب الشيخ جمال بشاشة : قال أمير المؤمنين عمر يوماً لأصحابه : تمنوا ، فقال رجل : أتمنى أن لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله ، وقال آخر : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجواهر أنفقها في سبيل الله ! ثم قال عمر : ولكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح !! الرجال بأرواحها وهممها وعزائمها ، ليس إلا ! ومتى كانت الأجساد علامة تميّز أو صورة لنجاح ؟ وما قيمة المرء إذا عاش ببصر كليل وعقل معطل ولو كانت بنيته بقوة جبل ؟
الهمة سلاح المؤمن كما يقول إمامنا ابن الجوزي ، فمن علت همته اختار المعالي. وهذا أقرب تفسير لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ، ويكره سفاسفها ، وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى ..”. المؤمن يتطلع دائماً إلى الترقي والتحضر ، إلى التحسين والإتقان ، نزولاً عند توجيه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: ” إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه “.
مثلان اثنان من أمثال جمّة لعلو الهمة والعزيمة والطموح في بلدتي:
عام 1935 بادرت ثلة من شباب برجا الواعين إلى تأسيس جمعية المواساة البرجاوية – وأعمارهم لم تصل الثلاثين – تحدوا المصاعب ، وحملوا هموم بلدتهم بصدق الرؤية وسعة الأفق ، فكان أول إنتاجهم مدرسة لتعليم البنات ، فتحت أبوابها عام 1938 ، لعلها كانت الأولى في ناحيتنا.
كان العلاّمة أحمد العجوز البيروتي رحمه الله مرشد الجمعية يجمع أهالي برجا الشوف في ساحة العين ، كبارهم وصغارهم ، يشحذ هممهم ، ويستنهض عزائمهم ، ويبين لهم أن العلم هو أساس النهوض، به تتقدم المجتمعات والأمم، وبدونه ترتكس وتهوي، وكانت النتيجة أن برجا كلها شاركت في تشييد مدرسة البنات.
أواخر الستينيات من القرن العشرين قيّض الله لبرجا مجموعة طامحة من أبنائها تحب بلدتها وتسعى إلى رفعتها، وتحاول جهدها أن تجد وسيلة لتلحق برجا بركب التقدم رغم الظروف الصعبة والإمكانات المحدودة.
تلك الثلة الطامحة كان في طليعتها نادي الديماس. وقد شقت درب المحورية – البساتين – إلى بيادر رؤوس برجا بشق الأنفس، في زمن كانت المعدات نادرة، والمال ضئيلاً، ولكن المهمة كانت كبيرة وعظيمة، همة برجا بشيبها وشبانها، ورجالها ونسائها … وكان حدثاً مدوياً مشهوداً بمقاييس ذلك الزمان.
أعود إلى برجا اليوم وإلى شؤونها وشجونها: ما أحوجنا هذه الأيام إلى أن تشخص عيوبنا كي ننأى عنها، إذ إن الذين يتجاهلون الحقائق يدفعون دائماً الثمن غالياً، وإذا كانت بضاعتنا الضعف والتخليط والتخلف، وبضاعة غيرنا الجرأة والأمل والحكمة والجمال، فمن سيربح؟ إن الله مع العلم دائماً في وجه الجهل، مع النظام على الفوضى، وهو جميل يحب الجمال.
ليس التخلّف أن تفتقر إلى الموارد أو لعناصر القوة ، ولكن التخلّف أن تتخلف في تفكيرك، أن تقعد وتستكين والدنيا من حولك تتقدم وتنهض ، التخلف هو أن ترتكس في أحوالك النفسية والإجتماعية ، وأن تعجز عن تشخيص أمراضك، وأن لا تكون قادراً على إستيعاب الظروف من حولك، وتظن نفسك على شيء مهم وطائل ، وأنت في الحقيقة فقير إلى ما يكمل مواهبك ، ولكنك واهم.
لأننا نحب برجا، ونغار عليها ، ولأننا لا نرضى إلا أن تكون في مصاف القرى والبلدات اللبنانية المتحضرة، ولأننا ننشد لها الرقي والسمو ، أقول : لأجل ذلك نحن بحاجة لا إلى ثورة شعارات وهتافات ، وإنما ثورة على أنماط التفكير ، ثورة على الواقع الإجتماعي الموبوء ، ثورة على العجز والكسل واللامبالاة، وذلك ما لا تكون خطوته الأولى إلا بإنتاج مجلس بلدي فاعل ، حضاري ، خلاق ، رؤيوي ، مبدع ، نهضوي وحداثي .
يقولون : الأعور أحسن حالاً من العميان ، ولكن يا أهل بلدتي برجا ، العور ليس كمالاً في الأجسام ، ولا صحة في الحواس ، وإذا سألتم ربكم التقدم وتحسين الحال فلا تسألوه الدرجات الدنيا ، بل سلوه الفردوس الأعلى .
إننا نأبى لبرجا إلا أن تكون شامة في وجه لبنان، عزيزة، منيعة، نتباهى بها ونفخر.
رحم الله اجدادنا .. وأدام الصحة والعافية لأبنائها الأبرار