في بلد السّنونو
على هضبة من هضاب بلدتي برجا تربع منزلي ، الذي كنت أتربص فيه لاصطياد السنونو المهاجرة .
لم أكن كما كل الصيادين أصطادها من أجل أكلها ، لأنه كما قيل لنا محرمة علينا ! لأنها تأتي من بلاد الحجاز ، حيث مكة المكرمة .
ورغم قدسيتها كما زعموا لنا ، نصطادها سفكاً لدمائها ليس إلا .
كنت مع غيري من الصيادين نلاقي صعوبة في إصابة رفوفها العابرة بسبب طيرانها المتأرجح في سمائنا ، و كأنها تعلم مسبقاً بالشراك الذي نصب لها من قبلنا ، و هذا ما تسبب بنجاة معظمها .
كنا حيالها نتأرجح بين الحلال و الحرام . فقتلها حلال ولحمها حرام .
كم كانت سيئة الحظ لأنها تجتاز في رحلتها بلاداً لم تعد تفرق بين الحلال و الحرام ، و كأنها كانت تعلم بأن مصيرها مهدد من قبل أناس في بلدي أمعنوا بالقتل و تلذذوا بالإجرام و أتقنوا شتى أنواعه و أشكاله .
و في بلد آخر زرته برفقة ابنتي و زوجها و أولادها الثلاثة ، و في أحد منتجعاته في مدينة (بلشيك) على البحر الاسود في بلغاريا أقمنا كسائحين .
قصدنا التنعم بالسلم و الهدوء و الاستجمام و راحة البال .
على تراس أوتيل (لايت هاوس غولف) جلست مع العائلة متأملاً هدأة الناس و روعة الطبيعة المسخرة لأجل راحتهم و قد راعني منظر الطيور السابحة في الفضاء و خاصة رفوف السنونو التي بنت أعشاشها في جدران الفندق الضخم بنجومه الخمسة .
رحت أراقب طيران السنونو فوق رؤوسنا و رؤوس الزبائن في الفندق و فوجئت بإحداهن تحلق فوقي بالذات سابحة هادئة ، فطيرانها هذا لم يكن مألوفاً عندي لأنني ما عهدتها تطير هكذا في أجواء بلدي !
حلقت فوقي و ألقت بحمولتها من الأوساخ على كتفي العاري !
ظننت أن الأمر غير مقصود .
و لماذا أنا بالــذات من بين جموع المحتشدين على التراس ؟
ثم حلقت أخرى فوق رأسي باسترخاء و ألقت أيضاً بأوساخها على كتفي الآخر ! وحطت بالقرب من رفيقتها الأولى التي كانت ترتقبها من على ظهر عشها المبني على جدران الفندق .
و هنا تساءلت لماذا أنا بالذات ؟ و لماذا كنت المقصود بفعلهما الشفيع ؟
رجعت بالذاكرة إلى اليوم الذي كنت أصطاد فيه السنونو في بلدتي مع الكثيرين من الصيادين .
مثلت أمام ناظري حقيقة دامغة وشعرت بأن هاتين السنونتين ربما كانتا ناجيتين من طلقات بندقيتي .
كان فعلهما إشارة واضحة إذ كيف تثأر الطيور من أعدائها !
و أحسست بأن هذه الأوساخ التي التصقت بكتفيّ كانت أكثر مضاضة و إيلاماً من الطلقات التي أودت بالكثير منهن في بلدي .
و شعرت أن كلاً منهما تقول لي :
أنت استعديتنا دون سبب و لماذا جئت الينا ؟ و أين تركت بندقيتك القاتلة التي فتكت برفيقاتنا ؟ و هل كان باستطاعتك أن تــــــأتي بهـــــا إلى هنـــــا لتفتــــك بنــــــــا فـــي عقر دارنــا ؟ .
نحن هنا تحت قانون الدولة و سقف الطبيعة و أنتم خالفتم قانون الدولة و تجاهلتم سنن الطبيعة و شوهتم معالم البيئة . أين شجاعتك وبراعتك في القنص ؟ لقد ألقينا بأوساخنا على كتفيك لنجعلك جنرالاً ظالماً و ديكتاتوراً سفاحاً فلا تنسى أن تأخذ معك هذه الشهادة حين تعود إلى وطنك .
ها نحن على مرمى حجر منك فهل تستطيع أن ترمينا به ؟ .
إنك جبان لا حول لك و لا قوة . عد إلى بلادك حيث القتل حلال عندكم … و نحن سنهاجر من جديد بحكم قانون الطبيعة و سنعود من رحلتنا فإذا عدت إلينا مرة ثانية سنعاود قذفك من جديد و لو بقي منا واحدة على قيد الحياة .
هذا إذا ما غيرت عقيدتك الشرسة و سلوكك العدواني .
أيقنت أن في هذه البلاد لا تشعر هذه الطيور بالخطر فتراها تسبح بإطمئنان فلا تتأرجح مخافة موتها فتنعم بالأمان و تبني أعشاشها في الجدران على مرأى من الجميع لتتكاثر من جديد و تكمل دورة الحياة التي تخضع لها .
هنا أصبت بخيبة أعترتني و ندم إنتابني ، رحت أكتشف الفرق بين شعبي و شعب بلغاريا ، حاولت مسح الأوساخ عن كتفيّ لأمسح صفة ذلك الجنرال الظالم ، و غادرت الفندق خجلاً و ندماً مردداً في قرارة نفسي :
” هنا حقاً بلد السنونو ، بلد السلام و الأمان … فمتى سيصبح مثله بلدي لبنان ؟ .
رائع