لبنانيون يسقطون ضحايا «رصاص المناسبات»
لكل مناسبة، حزينة كانت أم سعيدة، طقوسها، لكن في لبنان يكاد يكون إطلاق النار العادة المشتركة بين المناسبات كافة. يعبر اللبنانيون، في مناطق دون أخرى عن «مشاعرهم»، سواء أكانت ابتهاجا أم حزنا، بإطلاق الرصاص. وهنا تتوسع دائرة المناسبات بوجهيها، لتتحول الأفراح في أحيان كثيرة إلى أتراح، أو تتضاعف الأحزان بوقوع ضحايا بـ«نيران صديقة»، وصل عددهم، بحسب إحصاءات قوى الأمن الداخلي، إلى قتيلين و30 جريحا، خلال الفترة الممتدة بين الأول من يناير (كانون الثاني) 2013 وبداية سبتمبر (أيلول) الماضي.
وكان آخر هذه المآسي مقتل الشاب وسيم شحادة (27 عاما) في بعلبك برصاصة ابتهاج في حفل زفاف الأسبوع الماضي. والفاجعة نفسها وقعت بعد أيام قليلة في بلدة حوش الرافعة في البقاع، حيث قتل وسيم القرصيفي (28 عاما)، في حفل زفاف قريبه برصاص صديق العريس.
وبرغم أن القانون اللبناني يحاسب كل من يطلق النار في الأماكن الآهلة وغير الآهلة، سواء بإطلاق النار من سلاح مرخص أو غير مرخص، لكنه يبقى حبرا على ورق من دون أي تطبيق، لا سيما في ظل غياب القيود لرخص حمل السلاح التي توزع من دون حسيب أو رقيب.
أما العقوبة التي يفترض أن تنفذ فهي الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، إضافة إلى الغرامة، أو فرض إحدى هاتين العقوبتين، وذلك حسب طبيعة الفعل والجرم، ويصادر السلاح من مطلق النار في كافة الأحوال.
هذا الواقع المتفلت تعكسه أخبار الموت بـ«الرصاص الطائش» التي تنتهي في معظم الأحيان بوضعها في خانة «القضاء والقدر»؛ إذ لا تكاد تمر فترة قصيرة حتى يسمع خبر وفاة شخص هنا وإصابة شخص هناك برصاص أطلق في مناسبة ما، بما فيها الأعياد والمناسبات السياسية والتشييع والنجاح في الشهادات المدرسية. وكذلك، لإطلالات الزعماء حصة الأسد من هذه المناسبات، حتى إن أزيز الرصاص بات يشكل إشارة ودليلا على أن رئيس حزب يطل على جمهوره. وليس غريبا مثلا أن يستخدم عنصر أمن سلاحه الفردي للغاية نفسها، فيطلق رصاص الابتهاج أو الحزن من دون محاسبته، في معظم الأحيان.
وفي حين يلقي البعض اللوم في انتشار هذه الظاهرة على الوضع السياسي والأمني في البلد، فإن هذا الأمر وإن كان يساهم في تفاقمها في بعض الأحيان، إلا أنه ليس السبب الرئيسي وفق ما يقول مصدر أمني لـ«الشرق الأوسط»، موضحا أنه «عندما يطلق الرصاص في الأفراح وتشييع القتلى أو ابتهاجا بالنجاح في الامتحانات الرسمية، فهذا لا علاقة له بالسياسة وإنما بالوعي الاجتماعي»، مؤكدا أن «القوى الأمنية تعمل على ملاحقة المرتكبين، إنما الأمر يبقى خارج السيطرة بفعل غياب الضوابط الاجتماعية لها».
لكن يبدو واضحا أن كل حملات التوعية وكل التحذيرات التي وصلت إلى درجة تحريم إطلاق الرصاص عشوائيا لم تنفع للحد من هذه الظاهرة؛ إذ عمد أخيرا أمين عام حزب الله حسن نصر الله إلى تحريمها بالإعلان أنه تشاور مع علماء الدين الشيعة في العراق وإيران وقد أفتوا بحرمة هذا العمل. ووصف نصر الله هذه الظاهرة بـ«الخطيرة»، مناشدا الجميع «بمنطق العقل والدين والأخلاق والقانون والأهل والمحبة وأمن الناس واستقرار الناس، الانتهاء جذريا من هذه الظاهرة».
وكان العلامة الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله، أصدر فتوى مماثلة في عام 2007 حرم فيها كل ما من شأنه أن يضر بالبيئة أو يمثل اعتداء عليها أو يؤدي إلى إزعاج الناس وترويعهم وتخويفهم، في إشارة إلى ظاهرة إحراق الإطارات المطاطية وإطلاق الرصاص والمفرقعات.
وفي توصيفه لهذه الظاهرة اللبنانية، يرى رئيس حركة السلام الدائم، فادي أبي علام، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه العادة تدل على مدى التخلف في المجتمع، في حين أن المواطنين في الدول المتقدمة يعبرون عن مشاعرهم، فرحا أو حزنا، من خلال الفنون، ولا سيما الشعر والموسيقى». ويشير إلى إحصاء أجرته الجمعية في عام 2005 كانت أول ضحية سجلت حينها، في الضاحية الجنوبية لبيروت، تبلغ من العمر 25 عاما، ولها 3 أطفال، وسجل كذلك سقوط 3 قتلى وجريحين بإطلاق الرصاص بعد إعادة انتخاب نبيه بري للمرة الرابعة على التوالي رئيسا للبرلمان اللبناني، وما كان حينها من بري إلا الاعتذار عن استقبال التهاني حدادا.
وتطرق أبي علام إلى السبب الأساسي وراء انتشار السلاح الفردي في لبنان، المتمثل «بإعطاء التراخيص بشكل عشوائي انطلاقا من الوساطات والمحسوبيات السياسية»، مشيرا كذلك إلى «غياب المرجعية الواحدة التي تمنحها، وهذا ما لا يضبطه أيضا القانون اللبناني الذي لم يجرِ تعديله منذ عام 1958».
ويوضح أبي علام أن «هذه التراخيص تعطى تحت عناوين مختلفة و(فضفاضة)، كتلك التي توضع في خانة (المختلف)، أي لا تحدد نوع السلاح المحمول، أو (تسهيل المرور) و(أمر مهمة)، وتحول كلها دون ضبط انتشار السلاح».
ولم تختلف نظرة المتخصصة في علم الاجتماع الدكتورة منى فياض عن أبي علام، لناحية إطلاق النار في المناسبات، معتبرة أن «الوضع الأمني المتفلت في لبنان وعدم الثقة بمرجعية الدولة، إضافة إلى انتشار السلاح بشكل عشوائي، كلها عوامل تساعد على اتساع رقعة هذه الظاهرة في لبنان بدل الحد منها». وتشير في حديثها لـ«الشرق الأوسط» إلى أن إطلاق الرصاص في المناسبات هو «امتداد للنموذج العربي الذي يعتقد أن السلاح زينة الرجال، كما أن هذا السلوك الذي ينتج عن خلفية عنفية في المجتمع هو تجسيد لـ(الصوت) البشري أو الصناعي، الذي يعتمد عليه عادة للتعبير عن انفجار داخلي فرحا كان أو حزنا، بهدف الإعلام أو الإشهار، وفي أحيان كثيرة لتخويف الآخرين».
وترى فياض أن «هذا الأمر يمثل ومن دون شك عودة إلى الغرائز المشوهة على مستويات عدة»، سائلة: «كيف يمكن لإنسان أن يفرح لموت إنسان أو طفل آخر ولو كان خصمه؟». هذا الواقع يعكس بحسب فياض «انحلالا بالمشاعر الإنسانية، ويعبر عن العنف والأمراض المتجذرة، إضافة إلى الظروف غير الطبيعية التي أوصلت المجتمع اللبناني إلى هذا الحد ولنصبح أشخاصا غير أسوياء».
مع العلم أن إطلاق الرصاص في لبنان وتوزيع الحلوى فرحا بمقتل الخصوم ظهر علنا مرات عدة، ولا سيما إثر اغتيال بعض الشخصيات في فريق «14 آذار»، وإثر وقوع تفجيرات في منطقة الضاحية الجنوبية في بيروت ومقتل بعض المسؤولين السوريين في دمشق.
وتشدد على أن «إنهاء هذه الظاهرة ممكن، إنما يتطلب العمل عليه على مختلف الصعد، وأهمها التربية على مستوى لبنان بشكل عام لتوعية الأطفال على رفض العنف، وأن يلعب الإعلام دورا إيجابيا في هذا الإطار، بعدما أصبح العنف الكلامي، وفي بعض الأحيان الجسدي، هو الخبز اليومي للبرامج. كما على المرجعيات الدينية والسياسية أن تؤدي دورها كما يجب لحث المواطنين على الكف عن هذه الممارسات والعمل على أن يكون السلاح في يد الدولة وليس في يد الأحزاب، وأن يكون للجيش اللبناني مرجعية واحدة تابعة لكل الوطن وليس لجهة دون أخرى».
بيروت: كارولين عاكوم … عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 6 تشرين الأول 2013