الفايسبوك : سيرة ذاتية من نوع آخر
كتبت زينة سعيفان : إذا حاولنا قياس تأثير “قوى الفايسبوك” اليوم، فللأرقام الواردة في التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية الذي تصدره مؤسّسة الفكر العربي دلالة واضحة في هذا الشأن، وفي ما يمكننا أن نسمّيه “فقه أولويّات” المواطن العربي في تفاعله الفايسبوكي.
قد يفاجئنا ما تشير إليه الأرقام عن السلوك الفايسبوكي في الدول العربية باعتباره أحد روافد الإعلام الجديد، وقد يقول قائل إنّ هناك فجوة ما بين وهم الصورة الفايسبوكية سهلة التكوّن والحياة الواقعية للشخص، وإنّ كثيراً ممّا يظهر رقميًّا هو في الحقيقة أشبه بالفقاعات الهوائية الفارغة والإشارات الفردية الشاردة.
هي فرضيات قد تصحّ وقد تخطئ.
ولكن حينما يصل الأمر إلى قياس تأثير قوى الفايسبوك، فللأرقام الواردة في التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية الذي تصدره مؤسّسة الفكر العربي دلالة واضحة في هذا الشأن، وفي ما يمكننا أن نسمّيه “فقه أولويّات” المواطن العربي في تفاعله الفايسبوكي.
ففي سوق الأفكار الحرّة، أين تضع نفسك؟ وما علاقة صفحتك الشخصية بالصفحات الجماعية؟ وفي زمن أصبحت فيه الشبكات الاجتماعية تولد من رحم الفايسبوك ما الانطباع الذي يتركه حسابك ههنا؟ وفي حال غيابك عن هذا الموقع ألا يبدو الاحتجاب شكلاً من أشكال العزلة الذاتيّة التي قد لا تتماشى مع واقعك كمثقّف فاعل على أرض الواقع؟
تستحقّ صورتنا الفيسبوكية وقفة تأمّلية كي نرى كيف يصنع الفايسبوك ملامحنا في عيون الآخرين، أو كي نردم ما صنعه غيابنا من فجوة بين ما نحن عليه فعليًّا وما يبدو منّا افتراضيًّا.
وعلى الرغم ممّا تحويه الصفحات الفردية من إيهام هنا وتصفيق رنّان هناك، فإنّ مصداقيّة الفايسبوك باتت إلى حدّ ما مصداقية قاطعة. لذلك ففي الآونة الأخيرة درج القيّمون على أقسام التوظيف في الشركات ومسؤولو العلاقات العامة للمؤسّسات على الرجوع إلى الصفحات الفردية البارزة في نشاطها المستدام في حقل معيّن، بهدف قراءة متأنّية للسيرة الذاتية، ومن منظور غير تقليدي… يقصد بها سيرة “الحساب الشخصي على الفايسبوك” التي أصبحت معياراً للحكم وأداة للكشف يرجع إليها المدقّقون في شؤون التوظيف.
هذا الميل المستجدّ إلى التحرّي الفايسبوكي في محاولة لمعرفة أصدق لدائرة اهتمامات المستخدم وحلقة صداقاته يشير إلى أنّ الحركة الفايسبوكية أصبحت وجهًا آخر من السيرة الذاتية المهنية.
وكما أنّ الملفّ الطبّي الشخصي يواجه المريض بحقيقته الصحّية، فلا بدّ للعرب أن يطّلعوا على نتائج اهتماماتهم الجماعية، وأن يعرفوا الحقيقة التالية: إنّ ما يجري على الفايسبوك يشبه تمامًا “لوحة الفسيفساء” المكوّنة من ثلاثة أجزاء، تصف حركة العرب تجاه قضايا الشأن العام والخاص.
سنجد في المنطقة الأولى قضايا الشأن الخاص التي سيطرت سيطرةً مطلقة على اهتمامات الجماهير العربية، بحيث يدور %70 من المستخدمين في فلك الخواطر والمشاعر وغذاء الروح والجسد.
فالمشهد تتصدّره قضية المشاركات التي تتعلّق بالخواطر المتنوّعة والمشاعر الإنسانية، والتي تستحوذ على المركز الأوّل بنصيب يصل إلى %43,13 من إجمال المشاركات والتعليقات. أيّ أنّ فايسبوك العرب بالمقام الأوّل هو فضاء التنفيس عن مكنوناتهم، بحيث يجسّد آمالهم وإحباطاتهم.
يعزّز هذه الفرضية أنّ القضيّة التالية بعد الخواطر هي القضايا الدينيّة التي تستحوذ على حوالى خُمس المشاركات والتعليقات والمتابعات (%19,88) تمتدّ من الأناشيد والأدعية الدينيّة، وتنتهي بمناقشة قضايا التوحيد والفتاوى والعالم الآخر.
أمّا المنطقة الثانية فتشكّل ما يناهز ثلث اهتمامات المستخدمين (%30)، وتتراوح فيها القضايا المطروحة ما بين الشأن العام والخاص؛ منها الرياضة في المركز السادس، والطبّ والصحّة في المركز التاسع، والتلفزيون في المركز الحادي عشر.
وتظهر في المنطقة الثالثة قضايا الشأن العام، ومنها القضايا الاجتماعية، وقضايا الثقافة والفكر في المركزين الرابع والخامس.
الغريب أنّه بعد هذين المركزين تتأخّر قضايا الشأن العام، وتبدو بنسب تقلّ جميعها عن 1%؛ كقضايا الأسرة، والإعلام وحرية التعبير، والتربية والتعليم، والعلوم، والمؤسّسات السياسية، وقضيّة فلسطين، وحقوق الإنسان، واتّفاقيات السلام، والبيئة، والموارد، وغيرها.
وليس مصادفةً أن تكون قضيّة المذهبيّة هي أكبر قضيّة يتمّ تداولها بين الصفحات الجماعيّة، حيث تصل نسبة المشاركات الصادرة عن المجموعات إلى أكثر من %95.
وفي حين كانت اللوبيات الضاغطة والصالونات الأدبيّة والحلقات العلميّة في ما مضى هي اللاعب الأكبر في مجال خلق المناخ الفكري الثقافي الجامع، أصبح لصفحات فايسبوك اليوم تأثير الدومينو في مجال تبادل الأفكار وتفاعل الآراء وإطلاق الحملات. فلم يعد يخفى على أحد أنّ ثمة عقولاً تتحرّك من أجل هندسة وتنظيم قضايا الشأن العام، حتّى لا يخفت ضوء القضايا وثقلها على الصفحات الشخصيّة. مثال على ذلك تراكم حالات متشابهة من الرفض والثورة على صفحات فردية، تحوّلت إلى حالة جماعيّة، حرّكت الشارع العربي، وكان الربيع.
فأين أنت من هذه القطع الفسيفسائية، وأيّ منطقة تسهم أنت قي تكوين مشهدها؟ وكيف تجاري ما يصيب الفايسبوك من تطويرات؟
الفايسبوك كأيّ من أدوات التكنولوجيا التي تمرّ بمراحل نضج وتطوّر، يكتسب في كلّ يوم مزايا ويفقد أخرى، فهو لم يسلم بدوره من هذا التغيّر والارتقاء الحتمي.
نظرة متسرّعة إليه تبرهن أن التفاعل اللحظي الآني هو ما يطغى على مزاج مستخدميه. وهم، على سبيل المثال، يشاركون فيديو إخبارياً قصيراً عن بعض القضايا المطروحة في الساعة على اختلاف طبيعتها، وبخلاف المنتديات والمدوّنات التي تتّجه نحو التخصّص في الطرح بشكل واضح.
إلاّ أنّ الصورة البانورامية توضح لنا أهميّة هذا المنبر كمسرح فعلي للتقسيمات الفرعيّة التي تصل إلى 761 قضية مطروحة مقابل 482 قضيّة فرعيّة في المنتديات، و694 قضيّة فرعية في المدوّنات، ما يجسدّ ميلاً واضحاً في التقسيم والتفريع لدى مستخدمي الفايسبوك، الأمر الذي لا بدّ أن ينتج عنه ثقافة شمولية وعلوماً متشابكة منسجمة مع روح العصر.
من الواضح بناءً على ما تقدّم أن طقوس الفايسبوك لم تعد ترفًا تواصلياً تكنولوجيًا، كما أنّ التواصل في فضائها لم يعد محصورًا بالاستعراض المعرفي اللحظي لمشاركين يمرّون مرور الكرام على صفحات يعجبون بها أو وصلات يعلّقون عليها… بل إنّها بدأت تؤسّس لمرحلة ثقافة الفايسبوك بوصفها شكلاً راقيًا من أشكال التواصل الثقافي والتعميم المعرفي لقضايا جامعة، تبقى للجغرافيا فيها بصمة واضحة فيها، وترتبط بوضوح بمجمل الظروف التي يعيشها المواطن العربي داخل دولته سواء على الصعيد السياسي أم الاقتصادي أم الاجتماعي.
وبين موقعي الإرسال والتلقي، ها هو الفايسبوك قد أصبح اليوم مجالاً تشبيكيًّا تفاعلياً يتحوّل فيه الفرد باستمرار من موقع إلى آخر، فاتحًا بذلك الباب أمام التواصل الثقافي والتجسير الفكري، كواحد من أكثر المنابر الافتراضية واقعيةً لقدرته على تحويل أحلام التواصل والحوار إلى واقع.
فرض الفايسبوك نفسه. وهو محكوم بالتطور.. كان فاعلاً ومؤثراً في خيارات الشباب، وما زال الباب مفتوحاً أمام المستخدمين العرب الجدد، فاعلين ومتفاعلين. فكيف تكون أنت فاعلاً ومرسلاً؟ قل لي ما هو حسابك على الفايسبوك أقل لك من أنت…
عن نشرة “أفق” التي تصدرها “مؤسسة الفكر العربي”