هل تذكرون الماشطة ؟
كتب الأستاذ جمال المعوش : ” وجه نسائي مهيب أتذكره كلما شاهدت عروساً في حفل زفافها في أيامنا هذه .
وجه احتل حيزاً مهماً ضمن النسيج الإجتماعي وشبكة العلاقات الإجتماعية خصوصاً بين النساء في بلدتنا برجا فيما سبق من الأيام كما كانت تملكه هذه المرأة من حضور وحتى نفوذ بين الأسر المكونة لمجتمع برجا .
إنها الحاجة كريمة سليم عمر ترو 1922 – 2003 , زوجة عبد الرحمن مرشد شبو , وتعرف بالماشطة بحكم عملها في تزيين الفتيات في يوم زفافهن .
وكلمة ماشطة مشتقة من “مشط “والذي يستعمل في ترتيب الشعر وتسريحه ، حيث لم يكن في ذلك الوقت يوجد صالونات مخصصة لتزيين النساء وتصفيف شعرهن كما هو معمول به اليوم .
ومهمة الحاجة كريمة قديمة وكانت شائعة في الكثير من القرى اللبنانية خاصة البعيدة منها عن المدن , وهي تأتي ضمن سياق العادات والتقاليد التي كانت ترافق مراسم الإحتفال بالزواج سيما وأن للماشطة إضافة إلى الداية ( القابلة القانونية ) دوراً رئيسياً في تدبير الخطوبة والزواج من خلال معرفتها بالفتيات وبأمهاتهن وتقديم النصح لهن في هذا العريس أو ذاك ، إضافة إلى ذلك فإن الماشطة والداية كانتا محور العلاقات الإجتماعية بين النساء بما فيها من أحاديث وأسرار .
تحضر الماشطة عند الساعة التاسعة صباحاً في يوم زفاف الفتاة مرتدية عباءة بيضاء مزركشة تتأبط في اليد اليسرى الجزدان الأبيض تضع فيه أدوات الزينة على تنوعها , وتنبعث منه رائحة العطر والطيب والإبتسامة لا تفارق ذلك الوجه الأبيض المكلل بمنديل أبيض أيضاً والذي يرمز إلى الجدية والوقار والهيبة الإجتماعية .
تخالها وهي قادمة من بعيد وكأنها قطعة ثلج بيضاء تتدحرج ببطء لتصل إلى مكانها موحية بالبهجة والسرور وتضفي على فرح الفتاة فرحاً آخر ، تعلو زغردات النسوة مرحبة بقدومها ، يردد الحشد صدى الزغاريد .
في هذا الوقت تنبعث رائحة الطبخ الموضوع على مواقد الحطب أمام المنزل المقصود ( هريسة ، ششبرك ، محاشي وغيرها ) .
تدعى للفطور من أم العروس التي تقف مفاخرة بابنتها ومزهوة بهذا اليوم المنتظر ، فترد شاكرة لأنها ترغب في إنجاز عملها باكراً أن هناك عروساً أخرى تنتظرها ، تدخل برفقة العروس وبعض صديقاتها إلى غرفة جانبية والخجل باد على وجه العروس من خلال احمرار وجنتيها ، أما الباقون من الأمهات والفتيات فينتظرن خارجاً على أحر من الجمر .
أما الرجال ( والد العروس وأخوتها فيجلسون في مكان آخر ) ، بعد زهاء ساعتين أو أكثر ، تخرج العروس خالصة مخلصة وبكامل أناقتها وبفستانها الأبيض المزين بالنجوم الذهبية والطرحة على رأسها مردودة إلى الوراء ، تتبعها الماشطة وباقي الفتيات ، تعلو الزغاريد من أم العروس ومن بعض النساء الموجودات في فناء الدار ( أهازيج وطبل وزمر وما شابه ) ثم بعد ذلك تبدأ التعليقات .
تقول إحداهن : ما شاء الله طلعت حلوة العروس !
بينما تهمس امرأة أخرى في أذن زميلاتها : منيحة ولكن كان يجب أن تكون أحسن تقول ذلك وبصوت خفيض جداً كي لا يسمعها الآخرون .
أما الثالثة فتؤكد أن العروس مش حلوة بالأساس وتردد : شو بدا تعمل الماشطة مع وجه العكش ( البشع ) !
وتتمتم رابعة : آخدا شب بطل ، حظها بيفلق الصخر !
وخامسة : يا سعادتها شب شغيل بتمشيه متل ما بدها وبيرميلها المصاري بديلها !
وسادسة : تتحسر في سرها على ابنتها التي لم يأت نصيبها بعد وتدفع بها وتصر كي تظهر بجانب العروس علّها تلفت النظر ويهجم النصيب !
وسابعة : تتحرق ألماً من كنتها التي لا تعجبها وتقول : هيدي عروس متلي أني ! كنتي ما شاطرة الا بتزين حالها ( من برا خام ومن جو سخام ) دمها تقيل وحكيها مشرشح طبيخها سايط وهتدامها لايط .
أما أم أحمد فتقول محتدة : كل الجمال بتعارك إلا جملنا بارك ، في إشارة إلى ابنها الذي لا تعجبه عروس بعد !
وتضيف : أصغر منو أخدوا أحلى البنات وهوّا ناطر ( لا بكش ولا بمش ) .
في هذا الوقت تكون الماشطة على عجلة من أمرها وتريد المغادرة تأكل لقمة صغيرة ، تنتظر من يوصلها إلى العروس التالية ( تاكسي ، أصحاب العرس ) وإذا لم توجد السيارة تعتمد على رجليها مسرعة قدر الإمكان كي لا تتأخر .
قال أبو عمر عندما كان يمازح زوجته بنت نعيم وهو بالمناسبة رجل ظريف وصاحب نكتة ، التي كانت تعتد بنفسها متباهية بجمالها أثناء عرسها : ماشي الحال اشتغلت فيك الماشطة ساعتين ورسمتك ومحّتك 10 مرات حتى صرتي منيحة شوي .
أما نقطة العروس ( ما يقدم لها من مال ) فكانت إحدى صديقات أمها تمسك بصينية أو فوطة كبيرة وتجلس عند المدخل ويضع فيها المهنئون النقطة ( 10 قروش ، ربع ليرة ) ثم تجمع وتعطى لأم العروس التي تدفع منها أجرة الماشطة .
نعم هكذا كانوا … أحاديث بسيطة ممزوجة بالفكاهة والظرافة حتى لو كان تهكماً في بعض الأحيان .
بدأت مهنة الماشطة تتراجع وتتلاشى تدريجياً مع بداية السبعينيات إلى أن زالت نهائياً في الثمانينيات وإلى الآن , فلم يعد لها مكان مع تطور الآلات والتقنيات وانتشار صالونات تزيين النساء الحديثة وزالت معها العادات والتقاليد المواكبة لها مع ما يرافق ذلك من قيم التعارف والتعاون والمودة .
أصبحت العروس في يوم زفافها في أيامنا هذه وكأنها آلة متحركة ، تذهب صباحاً إلى صالون تزيين النساء ( كوافير ) لتعود مساء وقبل حلول الظلام بقليل على ظهر سيارة مكشوفة تصل ويتحلق حولها الصبايا والحضور بعد أن تدفع أجرة الصالون التي قد تصل إلى 1000 دولار .
أحاديث مملة ورتيبة وفقدان لروح النكتة عند الحضور وموسيقى صاخبة تصم الآذان وجموع ترقص وتهتف وتبدي العجب بالعروس وبجمالها ( وهذا ما سنخصص له مقالة أخرى حول تقاليد العرس بين الأمس واليوم ) .
المهم أن الماشطة الحاجة كريمة وبعد فقدانها لدورها ومهنتها عادت إلى منزلها متعجبة ومستهجنة من هذا التحول إلى أن وافتها المنية ورحلت عن هذه الدنيا تاركة لنا زمناً جميلاً ولّى , رأينا من المناسب إطلاع الجيل الجديد عليه وعلى ما يتخلله من تقاليد عشناها علّ ذلك يزيد من معرفتهم بالماضي والإستفادة قدر الإمكان لبناء الحاضر ” .