كتب علي نسر : ليست رواية « عندما تمطر السماء حنيناً » ، للروائي والناقد سالم المعوش (عن دار الحداثة ، بيروت 2012 )، رواية سيميائية أو رمزية ، كما يحاول أن يوهمنا عنوانُها الذي يلعب الكاتب من خلاله على الألفاظ ويدخلنا في أبواب البلاغة، إذ يشكّل العنوان تورية كبيرة، تختزل اسمي أبرز شخصيات النص، وهما حنين البطل المسلم وأحد الرواة، وسماء الراهبة التي تفيض عطاءً وتفانياً من أجل الانسانية.
تشكّل هذه الرواية عالماً موضوعيّاً موازياً للعالم الفعلي القائم والواقعي، في حقبة شديدة الحساسية وهي بداية السبعينيات، حيث غليان البلاد فوق مواقد الحرب المنتظرة، التي يؤكّد الكاتب أن كبريتها خارجي وحطبها اللبنانيون , فيختزل الوطن المنقسم آنذاك بقريتين شكّلتا أنموذجاً للعيش المشترك قبل الحرب ، لتحول بينهما متاريس القتال بعد ذلك، وهما قرية بطل الرواية وهي الشارفة، وقرية الحبيبة الراهبة (سماء) وهي دير القمير . ويتّخذ الكاتب من حبّ مستحيل التحقق بين بطلي الرواية – لعدة أسباب، ومنها الحائل الديني – ركيزة تبئيرية ليعلن رؤيته في الوجود، وعلاقته بالله والدين والوطن، حاسباً أنّ الحبَّ هو محطّمُ الحواجز بين بني البشر إذا ما أعطي له المجال في التعبير عن ذاته، وهو السبيل إلى التعرف إلى الله، وهو مفجّر سيل الأسئلة الأكثر تعقيداً حول وجود بني آدم على سطح البسيطة ، وعلى رأسها السؤال الدائر في أفئدتنا جميعاً، بوعي أو بلا وعي، وهو من قسّم البشر ؟ وجعل لكل ملّة ديناً خاصّاً بها، ما يجعلنا نجرؤ على التأويل ونرى أن المرء يكتسب دينه اكتساباً ولا يكتشفه اكتشافاً، بل تسقطه عليه الظروف والبيئة المحيطة به .
(من حدّد كوني مسلماً؟ ما هو الإسلام ؟ لماذا أنا مسلم وهي مسيحية ؟ لماذا فرّق الناس أدياناً وشعوباً وطبقات وألواناً – ص77) .
وخير مثال على ذلك سماء الراهبة، فيشير السرد إلى أنها لقيطة وجدت أمام الدير فتربت فيه راهبة، فلو عثر عليها مسلمون لكانت مسلمة محمدية. وأكثر من ذلك ربما تكون هي ذاتها من أبوين مسلمين.
ومن هذه القضية، تتشعّب قضايا أخرى في رحاب النص الروائي، فتتداخل القراءات المتعددة، ويبقى النص واحداً وثابتاً، فنجدنا أمام نص ذي تطلعات سياسية واجتماعية وفكرية وحضارية وانسانية بشكل عام، تنبع كلها من بحيرة الحب المعبّد الطريقَ الى التلاقي مع الله والانسان. فينبذ الكاتب على لسان بعض الشخصيات والأصوات السردية الداخلية، التعصبَ والتطرف الدينيين اللذين يحوّلان الدينَ عن مساره الأساس ، فإما أن يجعلاه غاية يوظّف المتديّن كل شيء في سبيل تحقيقها، رغم أن الدين جاء وسيلة غايتها الإنسانية، (…هذه الهوية : الإنسانية . آه كم نجهل معنى هذه الكلمة- ص 98)، أو اتخاذ الدين وسيلة كما أريد له في الحقيقة، لكنها وسيلة مشبوهة وظّفها السياسيون كغيرها من الشعارات الحساسة التي رفعوها من أجل اتمام صفقات سياسية تتجاوز الدور الرئيس للدين من جهة، وتعلو فوق هامة الوطن من جهة ثانية.
طرق مشبوهة :
وفي هذا، يرى الكاتب أن الدين شيء، والتدين أو الايمان شيء آخر، فالدين من الله جعله فعلاً ضرورياً، في حين أنّ التدين أو الإيمان ردة فعل غالباً ما شوّهت حقائق الدين الجوهرية، فأدخلت الناس في سراديب الصراعات والتناحرات، ما جعل بعضهم يرى في بعض الأفكار الثورية والأيديولوجية البعيدة من التعصب الديني ملجأ وملاذاً يحتمي بهما من فكرة الغاء الآخر ، لأنّ هذه المفاهيم الخاطئة، أو المزروعة في طرق أعيننا عن قصد وإصرار وتعمّد، تعمل على دحض الآخر وتشريع العنف ضده وصولاً إلى الإقصاء بالقتل . فالانسان كائن فضّله الله على باقي الكائنات في تبصّره وسعيه إلى فك ألغاز الكون عبر العقل ، لكنّ أذرعاً مشبوهة غيّرت المسار الصحيح تحت عنوان الدين والانقسام الطائفي محلياً، والحضاري عالمياً، ما جعل العقل البشري شبه مخدّر أو معطّل.
(تبدّى لي أنّ الشرائع والأديان تسعى إلى الحب. إلى السعادة أينما وجدوها… وأن الله أكبر من تفاهات البشر وخلافاتهم، وأنه وهبنا عقلاً لنفكّر لا لنأخذ الأمور كما هي خطأ كانت ام صواباً.. لنرى الأشياء والحقائق بعيوننا وأفهامنا وليس بعيون الآخرين وعقولهم – ص 82). وإن ما نشهده من انقسامات طائفية ليس لها من أسباب تدخل في جوهر الدين، بقدر ما هي من صنع مروّجي الدين بطريقة مشبوهة وعوجاء على قياسات سياساتهم، مسيحيين أكانوا أم مسلمين، إذ ينبّه الكاتب من خطر سقوط المسيحيين في أحضان الغرب لما يزرعه الغربيون من شعارات كاذبة، يختزلها عنوان: أن المسيحيين امتداد للعالم الغربي، بالإضافة إلى تقوقع المسلمين في الماضي للاحتماء من الانفتاح على الآخر بحجة محاولة سلبهم خصوصيتهم. فيرجع النص بهذه الإشكالية إلى مرحلة الحملات الصليبية التي جاءت بحجة حماية مسيحيي الشرق، فكانت عدوة للمسلمين والمسيحيين في آن، والتاريخ يثبت أن هذه الحملات دمرت من المساجد ما يعادل ما دمرته من كنائس. كما يؤكّد الكاتب أن بين طرفي النزاع، مخلصين وغيورين على الدين والوطن والتعايش المشترك، فيرون أن كل دين يكمل الآخر، والخلافات في الشكل وليست في الجوهر، لكن هؤلاء داست عليهم أقدام الميليشيات التي عاثت فساداً وخراباً في الأماكن المقدّسة ودنّست رموز الطهر فيها من بشر وصور وحجر .
الراوي المتعدد
هذه الرؤية/ الرؤى التي يطلقها الكاتب، كاشفاً بعض الحقائق التي ربما يتغاضى عنها الكثيرون اليوم، ويجعلوننا على شفير حرب جديدة، بثّها الروائي عبر تقنيات روائية شكّلت مرحلة الفهم، في حين شكّلت الرؤية مرحلة التفسير، فكان الراوي متعدداً في النص، ما جعل الرؤية تتعدد وتتنوع بين داخلية وخارجية وذاتية، إذ يمسك بزمام السرد والتبئير الخارجي راوٍ عليمٌ مطلق المعرفة، لكنه لم يحتكر السرد والحكي بل يعطي شخصياته حرية القول والتعبير والتبئير، فغالباً ما تعرض الشخصيات الأساسية والثانوية أحداثاً خاصة بها، خصوصاً ما يتعلق بالماضي الذي يطل عليه السرد عبر ومضات استرجاعية تضيء بعض الشخصيات والأحداث. كل ذلك عرضه الكاتب على خشبة المسرح اللبناني، ممثلاً بقريتي الشارفة ودير القمير، معلناً، وعبر حوارات الشخصيات عن مكانه الحلم أو المهجّس والذي يشكل وعياً ممكناً هرباً من الوعي القائم المأسوي، مكان يكون بيرقه مرفرفاً باسم الانسانية والمواطنة والعروبة، لأننا عرب سواء أكنا مسلمين أم مسيحيين. (كلنا عرب مهما ابتدعنا من نظريات… صغنا التاريخ سوية.. والأديان يكمل بعضهما الآخر.. ولن تنفع في لبنان إلا المواطنة الصحيحة، الانتماء إلى وطن ص 151). مكان يرتّل فيه القرآن على أنغام إنجيلية، (وانتحى جانباً وأخذ يهمس بالآيات القرآنية الكريمة.. بينما انتحى رئيس الدير في الجانب الآخر ساجداً يتلو صلواته ويهمس بآيات الإنجيل ويطيل في دعائه ص 160)…
نقلاً عن جريدة السفير .