كتب الأستاذ د . حسن منصور الحاج : إن التراث، أي تراث، يبقى مفتوحاً على محاولات متعددة المقاربات؛ فهذه قد تكون تاريخية، سياسية، إحيائية، ثقافية، توثيقية، سلفية، ذاتية، عنصرية…الخ ولكن المقاربة الإبستيمولوجية المعرفية للتراث، مع كونها تشكل جزءاً لا يتجزأ من فعل التراث، فهي مع ذلك بمثابة محاولة متعددة الوجوه والاتجاهات لرصد البنية النظرية أو الهيكلية العقلانية التي تحكم نشأة وإبداع وفعل هذا التراث.
وبما أن التراث هو عبارة عن ثمرة النشاط المتعدد الأبعاد لجماعة معينة من البشر، كبيرة كانت أم صغيرة، كونية كانت أم محلية، فإن مفهوم التراث لن يكون محسوباً فقط على الماضي بل سيكون حاصل تركيب أبعاد الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.
انطلاقاً من هذه الخلفية دخلنا في عملية مقاربة التراث البرجاوي آملين أن يكون عملنا هذا مساهمة في صنع هذا التراث من خلال اكتشاف وترسيم حدود البنية النظرية التي تؤسس لممارسته على أرض الواقع.
ولقد سبق لنا أن استخدمنا مصطلح “العقل البرجاوي” كأداة منهجية للتدليل على تلك البنية النظرية. ونقصد بمفهوم “العقل البرجاوي” ذلك النظام المعقد من العلاقات الذي يحكم ويؤطّر سلوك المجتمع البرجاوي، طابعاً بطابعه أفراد هذا المجتمع وتاركاً بصماته فيهم.
وكنا قد حددنا سمات هذا “العقل” وتحدثنا عن مفارقات تميزه وتجعله يتمتع بازدواجية الأصالة والتماثل، أي أنه في ذات حركة أصالته نجده متماثلاً ومنتمياً إلى الحركة الكونية للعقل الإنساني.
ومن هذه المفارقات تحدثنا سابقاً عن البسيط المركب والثابت المتجول والقروي المتمدن؛ أما الآن فإننا سنسلط الضوء على مفارقة أخرى قد تساعدنا على فهم “العقل البرجاوي” من خلال ظاهرات تبدو متناقضة بينما هي في الواقع ليست سوى تجليات لشخصية واحدة ولعقل واحد؛ إنها مفارقة الصلب المرن.
نريد القول بأن نسيج “العقل البرجاوي” ينطوي على حيوية ناتجة عن طبيعته القائمة على الحركة والتفاعل بين متناقضاته؛ ومن تجليات هذه الحيوية تلازُم وتفاعل الصلابة والمرونة في ممارسات هذا “العقل”. على ذلك فإن صلابة “العقل البرجاوي” تتجلى في العديد من الظاهرات نذكر منها:
1- ظاهرة الانتماء الوطني والقومي، حيث يبرز الموقف المبدئي الصلب لأبناء برجا والمتمثل في اعتقادهم بجدلية العلاقة بين القضيتين الوطنية والقومية إذ أنهم يؤمنون بعروبتهم بقدر ما يؤمنون بلبنانيتهم.
ونحن نعتقد بأن هذا الموقف المبدئي الصلب يتشارك فيه كل أبناء برجا على مختلف اتجاهاتهم السياسية. وهذه الصلابة برزت في محطات عديدة في تاريخ برجا حيث صمد هذا الموقف رغم الموجات العقائدية التي اجتاحت برجا من شيوعية أممية وناصرية وبعثية واشتراكية وإسلامية.
ولا بد من التذكير بموقف برجا المشرّف والمبدئي المقاوم للاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ورفض إغراءات عملائه والصمود بوجه الاحتلال رغم التضحيات.
2- ظاهرة الإيمان الديني، حيث نرى البرجاوي صلباً في عقيدته الإسلامية وفي إيمانه بمبادئ الدين؛ فهو بالرغم من تجاربه المريرة والحروب والفقر والعقائد السياسية بقي متمسكاً بالدين كمعيار وكمرجع يحميه من زلل الإنسان وانحرافاته ومن شرور الأرض وإغراءات الدنيا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن صلابة الإيمان الديني في برجا لم تتوقف يوماً رغم ما شهدناه من تنوع عقائدي وسياسي لأن الشعور الديني كان أقوى بحيث أن هذا الشعور ظهر أحياناً بأثواب أخرى وبأسماء مختلفة في الممارسة العقائدية والإيديولوجية للقوى السياسية.
ولا بد من الإشارة إلى أن الشيوعيين في عز قوتهم أثناء الحرب الأهلية كانوا لا يدفنون شهداءهم إلاّ بعد الصلاة عليهم في المسجد. وليس أدلّ من ذلك على صلابة الشعور الديني في نظام “العقل البرجاوي”.
3- ظاهرة الأخلاق والتربية المحافظة حيث تسود المبادئ الأخلاقية الصارمة في تربية العائلة والأولاد وحيث لا مساومة في هذا الموضوع.
وهذا الموقف الصلب يستند إلى التقاليد الإسلامية والعربية الشرقية. وهذه التقاليد معروفة بشكل عام ومبدئي ولا حاجة بنا إلى تفصيلها هنا.
4- ظاهرة العمل، حيث تبرز إرادة البرجاوي الصلبة في العمل مهما كلفه الأمر من مشقات وتضحيات. وبرز ذلك من خلال إصراره في أحلك الظروف على ابتكار أساليب كسب الرزق بدءاً بصناعة الحرير وصولاً إلى التجوال في البلدان العربية المجاورة لبيع بضائعه.
ففي عز أيام الحرب كان البرجاوي يتنقل من بلد إلى آخر لكي يحصل على لقمة عيشه مغمسة بعرق جبينه. إن صلابة البرجاوي برزت إذن في تحديه لأصعب الظروف من أجل القيام بعمل ما لكي يعيش بكرامته ويؤمن مستقبل عائلته.
5- ظاهرة طلب العلم والمعرفة، حيث لم يستسلم البرجاوي لظروفه الاجتماعية والاقتصادية فكانت الإرادة الصلبة في تحصيل العلم لأبنائه تشكل دافعاً قوياً له لبذل الغالي والرخيص من أجل ذلك.
ورغم الفقر ورغم الظروف الصعبة انتصر الموقف المبدئي وبدأت أفواج المتعلمين تنمو وتتكاثر في برجا وكان ذلك نتيجة تضحيات الأهل الذين باعوا أرضهم ليعلّموا أبناءهم من جهة ونتيجة تضحيات القوى السياسية التي ساهمت بدورها، من جهة أخرى، في تأمين المنح الدراسية إلى الخارج للعديد من أبنائها.
وهذه الظاهرة لم تكن لتحدث لولا صلابة الإرادة البرجاوية في طلب العلم والسير في ركاب الحضارة والتقدم.
6- ظاهرة الحفاظ على تقاليد القرية، حيث يبقى البرجاوي متمسكاً بتقاليد التضامن والتكافل بين أبناء القرية الواحدة رغم التغيرات العميقة التي أصابت العلاقات الاجتماعية على صعيد الإنسان بشكل عام.
ولا شك في أن استمرار العلاقات الاجتماعية القروية في برجا رغم كونها كبيرة عددياً لهو دليل على صلابة معينة تجاه الأمواج العاتية الآتية مع الحضارة الجديدة في زمن العولمة.
7- ظاهرة التعلق بالأرض والتملك، حيث يبدو أن البرجاوي يقضي حياته وهو يعمل على بناء بيت له في أرض يملكها. فالبرجاوي يسافر للعمل في الخارج أو يقبض تعويضه من الوظيفة أو يحصل على قرض مصرفي ثم يضع كل ما لديه في أساس وجدران منزل له ولأبنائه ولأحفاده من بعده.
إن هذه الإرادة الصلبة في التعلق بالمكان رغم التضحيات تشكل دليلاً إضافياً على صلابة “العقل البرجاوي”.
أما الآن وبعد أن استعرضنا بعض تجليات الصلابة البرجاوية، لا بد من الإشارة إلى أن الصلابة التي نتحدث عنها ليست التصلب ولا التعصب بل هي الصلابة التي تؤسس لبنيان “العقل البرجاوي” وتشكل ركيزة من ركائز ثباته وأصالته. والصلابة هذه لا تستبعد المرونة بل إن الصلب الحقيقي هو الذي يبقى صلباً بالرغم من استيعابه لحالات المرونة. على ذلك، فإن صلابة “العقل البرجاوي” لا تخشى المرونة بل تقتضيها من أجل حيوية المجتمع وفاعليته ونشاطه. وتتجلى مرونة “العقل البرجاوي” من خلال ظاهرات نشاطاته وفعالياته العديدة والتي نذكر منها:
1- ظاهرة الانفتاح على الفكر العالمي والقضايا الكونية، حيث نجد الإنسان البرجاوي، بالرغم من تعلقه بوطنيته اللبنانية وبقوميته العربية، منفتحاً على الأفكار الكونية محاولاً إغناء تراثه الفكري من خلال تمثل بعض مفاهيمها من جهة ومحاولاً من جهة أخرى إثبات قدرته وأصالته في مدى انتمائه إلى العقل الكوني.
وظهر هذا الانفتاح من خلال تفاعل “العقل البرجاوي” مع الفكر الإسلامي كفكر كوني ومع الفكر الاشتراكي كفكر إنساني.
2- ظاهرة التسامح الديني والانفتاح على الفكر العلماني والطوائف الدينية الأخرى، حيث نجد أنه بالرغم من الإيمان الديني الصلب فإن المجتمع البرجاوي يتميز بعلاقة التسامح الديني وبالمرونة الكافية ضمن حدود العقيدة؛ وهذا يبرز من خلال العمل الاجتماعي المشترك بين القوى والهيئات المختلفة كما يظهر من خلال التعاطي بتفهم وبتسامح مع بعض العادات الاجتماعية المعاصرة والمستجدة ومن خلال نبذ التعصب الديني.
ومن جهة أخرى، فإن البرجاوي تميز دائماً وما يزال بانفتاحه على الطوائف الأخرى ويعتز بصداقاته وعلاقاته بأبنائها وهذا يعود إلى كونه عاش متنقلاً لفترات طويلة بين البلدات والمدن اللبنانية المختلفة بصفته مدرساً أو جندياً أو بائعاً متجولاً بالإضافة إلى أن إيمانه الديني هو إيمان صادق عفوي وحقيقي يفهم الدين على أنه يسر وليس بعسر.
أضف إلى ذلك، أن قناعة البرجاوي راسخة بأن انتماءه إلى الأفكار القومية والوطنية والاشتراكية لا يتناقض مع إيمانه بالدين الإسلامي الإنساني الكوني.
3- ظاهرة التكيف مع روح العصر الحديث حيث نرى البرجاوي، بالرغم من تمسكه بالأخلاق التقليدية، يجد الوسائل التي تجعله متكيفاً مع العصر الحديث بتقنياته ومظاهره المتنوعة والمتعددة الأبعاد والتأثيرات.
ولا بد من الإشارة إلى أن المرونة والانفتاح في التربية الأخلاقية البرجاوية ساهما في الحفاظ على توازن الشخصية البرجاوية وفي منح الإنسان البرجاوي ثقة بنفسه في نفس الوقت الذي حافظ فيه على تقاليده ومبادئه.
4- ظاهرة المرونة في اختيار العمل، حيث أن الصلابة في إرادة العمل يقابلها مرونة في اختيار الوظيفة أو المهنة إذ أن البرجاوي لا يخجل أبداً بعمله، فهو يفضل العيش بكرامة من شغله مهما كان مستوى وظيفته أو حرفته على أن يكون عاطلاً عن العمل أو عالة على المجتمع.
5- ظاهرة تحديث التقاليد، حيث يجد البرجاوي نفسه أمام تحديات جديدة طارئة يحملها عصر التكنولوجيا والأقمار الصناعية والإنترنت وتتداخل معها علاقات المدينة بعلاقات القرية، فيعمل على ابتكار أساليب جديدة للمحافظة التقاليد ولجعلها في نفس الوقت أكثر مرونة وأكثر تكيفاً مع حياة الإنسان المعاصر.
6- ظاهرة الروح العملية التي تأتي لكي توالف ما بين صلابة المبادئ وواقع الحياة. هذه الروح يتمتع بها “العقل البرجاوي” لكي يعطي لصلابته بعداً مرناً يجعل الحياة قابلة للعيش في ظل أقسى الظروف.
7- ظاهرة الفكاهة التي يتمتع بها البرجاوي والتي تشكل جانباً من حياته النفسية والاجتماعية تجعله يسخر من الصعاب ويتعامل بمرونة أكبر وبهوامش أوسع مع مبادئه الصلبة التي يستمد منها قوته على السخرية والفرح المأساوي.
8- ظاهرة النقد الذاتي والاعتراف بالآخر تعد من أهم جوانب المرونة في “العقل البرجاوي”. ويظهر ذلك من خلال الممارسة الديمقراطية سواء كان في العمل السياسي أو في العمل الاجتماعي والثقافي.
هكذا تبدو لنا مفارقة الصلب المرن في “العقل البرجاوي”. فبعد أن استعرضنا تجليات الصلابة وتجليات المرونة، لا بد لنا من الإشارة إلى أن هذا التصنيف ليس سوى تصنيف منطقي يحصل على صعيد الفكر فقط، بينما في الواقع الحي، نحن لا يمكننا الفصل بين ما هو مرن وما هو صلب في “العقل البرجاوي”، إذ أن هذا “العقل” ليس سوى الوحدة التي تتفاعل في داخلها ظاهرات السلوك البرجاوي على اختلافها. فهذا العقل الصلب هو ذاته الذي يحمل إمكانيات مرونته؛ فهو بقدر ما يكون صلباً بقدر ما يكون قادراً على أن يكون مرناً مع بقائه صلباً. وهو بقدر ما يكون مرناً يكون قابلاً لأن يكون صلباً مع بقائه مرناً. وتتجسد هذه العلاقة داخل “العقل البرجاوي” من خلال العلاقة بين صلابة المبدأ ومرونة الممارسة التي ينتج عنها شخصية حقيقية واقعية وتاريخية تتمثل بالإنسان البرجاوي الذي بذلك يكتسب حق الانتماء إلى مسيرة الإنسان الكوني وبالتالي إلى التاريخ بكامل أبعاده.