حتى يكون لأبنائنا تراثهم
كتب د. حسن منصور الحاج : يجري الحديث عادةً عن التراث وكأنه شيء من الماضي أو كأنه مجموعة من الأعمال والآثار الجامدة المنفصلة عن الحاضر والمستقبل؛ وبذلك يتم التغاضي عن حقيقة فعل التراث بالذات وهي كونه فعل تواصل الأجيال عبر الزمان والمكان.
وبما أن التراث الإنساني يخص كل أبناء البشر فإن صناعة هذا التراث تتم من خلال نشاطات البشر في الحاضر . على ذلك، فإن مهمة إنسان اللحظة الحاضرة تكمن في إرساء قنوات التواصل فيما بين إنسان الماضي وإنسان المستقبل من خلال إبداعه لثقافة تميزه وفي ذات الوقت تكون بمثابة أساس لحضارة تهيّؤه لاستقبال ومواجهة تحديات المستقبل؛ ولكن ذلك لا يتم إلا في التواصل مع الماضي من خلال استيعابه وإعادة تمثله وتكييفه مع مقتضيات العصر.
وانطلاقاً من فهمنا للتراث على أنه ثمرة جميع أوجه نشاط الروح الإنسانية وأنه ما يبقى وما يدوم في ممارسة الأجيال وفي ذاكرتها، فإننا نعتبر أن كل ما نقوم به اليوم من إنجازات عمرانية وعلمية وتربوية وفكرية إنما يصب في عملية التأسيس المستمرة للتراث البشري، وبالتالي في تشكيل ماضي أبنائنا الذي بدوره سيساهم في تشكيل حاضرهم أي ماضي أبنائهم من بعدهم وهكذا تستمر السلسلة طالما هناك تاريخ حي وطالما هناك بشر يصنعون هذا التاريخ.
من هنا، فإن أبناء الحاضر يبنون ماضي أبناء المستقبل وبالتالي لم تعد قضية التراث قضية العودة إلى الماضي بقدر ما هي تطلُّع إلى الحاضر في سبيل الماضي والمستقبل معاً؛ ونعني بذلك ماضي أبنائنا ومستقبل جيلنا الحاضر.
على ذلك، فإننا إذا كنا لا نستطيع نزع مفهوم الماضي من تعريف التراث فيمكننا على الأقل النظر إلى هذا الماضي بصيغة المستقبل إذ أننا حين نبني مستقبلنا ننطلق من حاضرنا المستند إلى ماضينا الذي كان بدوره مستقبل آبائنا؛ وهكذا عندما نبني مستقبلنا فإننا نؤسس ماضي أبنائنا.
إذن، إن التراث هو آنٌ دائم وإن فعل التراث لا يمكن حصره لا بالماضي وحده ولا بالحاضر ولا بالمستقبل، فهو فعل مثلث الأبعاد، دائم الإبداع وعابر الزمان والمكان ومتجاوز قطيعات التاريخ متمثلاً الثقافة الكونية في مراحلها المختلفة.
من كل ذلك نريد القول إن صناعة التراث هي صناعة الحاضر؛ فبقدر ما نهتم بحاضرنا وبمستقبلنا بدل التغني بأمجاد الماضي أو البكاء عليه أمام تحديات ورياح التغيير، بقدر ما نحمي تراثنا وتراث أبنائنا الماضي والمستقبلي.
ولكن كيف يتم بناء التراث؟ باختصار، إن مايبقى ويدوم ويثبت في ذاكرة التاريخ والشعوب هو ما تتركه من عمران يتجلى في الصروح الجميلة العريقة في الذوق والفن وصلابة الصخر؛ كما يتجلى التراث في ما تتركه الشعوب من علوم وتكنولوجيا ومن مآثر ثقافية يدخل فيها كل مايتعلق بالفن والدين والفكر والأخلاق. وبالتالي فإن بناء التراث يتم من خلال الإبداع في جميع تلك الميادين.
وبما أن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم وتراثهم في إطار ظروفهم المحددة، فإن المساهمة في بناء التراث تأتي من جميع شعوب الأرض بدءاً من الفرد وصولاً إلى أكبر المجموعات البشرية مروراً بالمجموعات القبلية والقروية والمدينية والقومية والدينية؛ وبالتالي فإن أي فرد منا يستطيع المساهمة في بناء تراثه وتراث البشرية من خلال المجموعة التي ينتمي إليها.
من هنا ننتقل إلى التراث البرجاوي، تراث القرية-المدينة التي ننتمي إليها ؛ ولا شك في أن برجا تتمتع بتراث غني مشرّف ومشرق ، ولكننا نحن اليوم ندعو إلى صناعة تراث الحاضر بحيث نحفر لنا زاوية صلبة ودائمة في التاريخ؛ وهذا يتم من خلال القيام بنشاط استثنائي يتمثل :
- في بناء مركز ثقافي ضخم يتضمن مكتبة غنية ومركز معلومات وتوثيق وانترنت وقاعات عامة وملاعب صيفية وشتوية حيث تتركز فيه جميع النشاطات الإبداعية وتتفاعل قدرات أبناء البلدة في سبيل إبداع أفضل وتراث أكثر ديمومة وأكثر خلوداً.
- في خلق الأطر المناسبة لتشجيع الإبداع الفني والجمالي لدى أبنائنا. وهنا لا بد من الدعوة إلى اكتشاف المواهب العديدة في برجا سواء في الرسم أو الموسيقى والشعر والغناء وغير ذلك.
- في الاهتمام بالبيئة وبجمال القرية من خلال إقامة الحدائق العامة من جهة ومن خلال زرع الثقافة البيئية في نفوس أبنائنا من جهة أخرى.
- في تعميق النشاط الثقافي وتعميمه وذلك من خلال التركيز على الأبعاد الفكرية في الثقافة وذلك يتم عبر إثارة الفضول العلمي والفكري عند أبنائنا ودعوتهم للتفكّر والتأمل في قضايا كبرى تتجاوز حدود القرية والوطن لتطال القضايا الإنسانية والكونية.
بالطبع، إن عملية بناء التراث هي أعقد بكثير مما عرضناه ولكن المهم هو العمل والإبداع. من يقوم بهذه المهمة؟ الجواب هو أن كلنا مسؤول عن بناء تراث محترم يفتخر به أبناؤنا وأحفادنا؛ ولكن المسؤولية الكبرى تقع على من هم في موقع المسؤولية ونخص بالذكر المجلس البلدي بشكل أساسي، والجمعيات الثقافية والأندية الرياضية والشخصيات الفاعلة والقادرة والأساتذة الجامعيين والثانويين والابتدائيين والمهندسين والأطباء والمحامين وغيرهم؛ كما يجب ذكر مسؤولية نوابنا والدولة بشكل عام في دعم وتشجيع الناس على تطوير حياتهم وتأصيل تراثهم.
أخيراً، ولكي يكون لأبنائنا تراثهم الذي يفتخرون به، قد يكون علينا الكف عن النظر إلى التراث من وجهة نظر الماضي فقط بل علينا النظر إليه من وجهة نظر الحاضر والمستقبل أيضاً؛ فهل نحن مستعدون لبناء تراث الأجيال القادمة؟ وماذا فعلنا من أجل ذلك؟