يازمانك يازيت البعيّا !
كتب الأستاذ محمد علي دمج : الإنسان منذ الأزل كرم واعتنى بشجرة الزينون المباركة وغرسها واستثمرها واستفاد من خيراتها ومدح نتاجها وضرب الأمثال في منافع زيتها . فقال : كُل الزيت وادهن به … كول الزيت وانطح الحيط .
أما كيفية وطريقة استخراج زيت الزيتون فيما مضى وقبل اختراع الآلآت الحديثة فقد كانوا يستخرجونه بطريقة بدائية وبواسطة ( المدرس ) الذي كان ينصب في باحات حارات برجا الشوف , أمثال مدرس الشيخ إسماعيل الحاج ، ومدرس الحاج أمين درويش البراج ومدرس قرب محلات ( أبو مرعي ) .
وبعد أن يصبح الزيتون عجيناً تحت المدرس تستخرج النسوة زيته بعد صب الماء الساخن على العجين في بيوتهن .
ولما كانت هذه الطريقة متعبة وشاقة ، ولا تطبق إلا على الكميات القليلة من الزيتون فإن الباحثين والعلماء توصلوا بجدهم وجلدهم وعملهم إلى إيجاد ماكينات خاصة لاستخراج هذا الزيت بكميات كبيرة ووفيرة .
وكان أول من استخرج وأمتلك معصرة زيت زيتون في برجا إلى جانب المطحنة والجاروشة والدي الحاج علي درويش دمج ، بعد أن كان قد اشترى أولاً المطحنة والجاروشة من الشيخ علي أحمد الخطيب ، والد الأستاذ يونس الخطيب مدير ثانوية برجا الأسبق .
ويقول الأستاذ يونس علي الخطيب : إن والده كان يملك شراكة مع سعيد أمين القعقور من بعاصير مطحنة وجاروشة فقط ، وكانت المطحنة تتعطل بشكل دائم مما أربك العائلة وأزعجها حتى نفد صبرها من هذه الأعطال والأتعاب ، فأشارت والدة الأستاذ يونس على زوجها ببيع هذه المطحنة والتخلص منها بأي شكل , حتى ولو أدى ذلك إلى إعطائها مجاناً لمن يرغب .
وعلى علم مني أنني سمعت من والدتي بأن والدي قد ابتاع المطحنة والجاروشة من الشيخ علي أحمد الخطيب ونقلها إلى محلاتنا ثم أضاف عليها فيما بعد معصرة زيت الزيتون .
وقد كان في برجا مطحنة ومعصرة زيت زيتون شراكة لمتمولين من آل سعد وآل الخطيب ، مقابل مطحنة ومعصرة الوالد ، تولى العمل فيها عبد الغني محمد سعد ( والد بدر الدين سعد الحجة ) .
بعدها وجدت مطحنة ومعصرة ثالثة في برجا كان يملكها الحاج أمين درويش البراج ومن بعده ولده الحاج محمد أمين البراج ( أبو ياسين ) .
بعد تملك الوالد للمطحنة والمعصرة أهمل تجارته الأولى وتعلق بالمطحنة والمعصرة , وبدأ العد العكسي عنده بعد أن كان في تجارة السمانة يشتري الأراضي أصبح في المعصرة ينتظر المواسم فقط والتي لم تكن تفي بالغرض والأتعاب ، خصوصاً وأنه كان يشاركه في المعصرة والمطحنة شقيقه الأكبر ( محمد – أبو كمال ) جد المرحوم محمد كمال دمج .
لم يعمل الوالد في المطحنة والمعصرة لوحده بل استخدم للعمل معه بادىء الأمر كلاً من درويش الزعرت وخليل الشمعة ( السوداني ) والشاب ( الآغا ) أو سعيد الحاج حسن .
وهذا الأخير تبناه الوالد فيما بعد وأصبح يدعى ( سعيد الحاج حسن دمج ) ولكن لقب ( الآغا ) طغى على ما عداه من الأسماء . لم يكن الآغا يعرف أمه وأباه ولا أفراد عائلته سوى ابن عم له لم يعترف هذا به ألا وهو ( محمد الدب ) وشقيقته كوكب الدب مطلقة المرحوم علي حسن البراج ( أبو مشهور ) . وقد يكون الآغا عاش في كنف شخص محسن وهو يتيم في طفولته حتى أصبح شاباً عندما عمل عند الوالد .
كان الآغا قوي الجسم والسواعد , خدم عندنا بشرف ونزاهة وأمانة , وكنا نعتبره واحداً منا , يأكل معنا وينام في غرفة خاصة به .
يقوم صباحاً إلى العمل فيركب حماره ويجول في أحياء البلدة وينقل القمح والشعير والبرغل للزبائن ويعيدها بعد الطحن والجرش لأصحابها ويقبض منهم الأجرة التي كان يسلمها بأمانة الوالد .
أما في موسم الزيتون فكنت تراه يعبر بأكياس الزيتون من البيوت إلى المعصرة ليلاً ونهاراً وقلما ينام للراحة . أهالي البلدة أصحابه وأحبابه . يناديهم بأعلى صوته وكانت العوانس من بنات البلدة اللواتي كن يتسامرن معه ويناديهن ( بوظ – بوظ أي بايظين ) فيتقبلون منه هذا الوصف بالضحك والترحاب .
عمله في المكبس كان شاقاً ومتعباً ورغم ذلك لم يكن يرضى بأن يساعده في عمله شخص آخر لثقته في بنفسه وبأنه قادر وحده على تنفيذ ما يطلب منه بسرعة ونشاط .
وفي الأشهر التي تسبق موسم الزيتون كان لا يرتاح في البيت بل كان يأخذ حماره وينزل إلى الجية ويحمله الحصى أو الرمل ويأتي بأحماله إلى البيت مما أغنانا عن مشترى هذه المواد .
ولننتقل إلى مساعد آخر لوالدي في معصرته . إنه شقيقي المرحوم رجب الذي لم يكمل تعليمه وبقي عاطلاً عن العمل حتى بلوغه العشرين من عمره فالتحق بالوالد يساعده في عمل المعصرة ويتقاسم معه الأتعاب وشقاء العمل .
ولما كان العمل في موسم الزيتون يدوم ليل نهار فقد كان الوالد يسهر الليل وينام في النهار , وكان رجب ينام في الليل ويعمل في النهار .
وبقي رجب على هذه الحال حتى أصبح الوالد مختاراً للبلدة سنة 1949 عندها استلم رجب المعصرة وأصبح العمل في المطحنة والمعصرة مهملاً تقريباً خاصة بعد أن توظف رجب في التنظيم المدني .
ولما كانت مواسم الزيتون تتفاوت فيها المحاصيل سنة بعد سنة , عزم الوالد على بيع المطحنة والمعصرة وبيعت إلى شخص من البرجين بسعر زهيد .
قلنا إن برجا كانت تحتوي على ثلاث معاصر ، اثنتان منهما تعملان والثالثة توقفت بعد فترة من إنشائها , وفي المواسم الفائضة بالمحاصيل كان الأهالي يتزاحمون على الديران خوفاً من أن يتعفن حب الزيتون ويفسد زيته ويصبح له رائحة نتنه .
ولما لم يكن المعملان ليفيا بالغرض اضطر ملاكو الزيتون الكبار إلى التعامل مع معاصر من خارج برجا والتي لم يحن قطاف الزيتون في محيطها بعد مثل ( المنصورية وصيدا وغيرها ) , لأن ثمر الزيتون في برجا كان يقطف قبل موعد نضجه الكامل حفاظاً على جودة زيته وللإنتهاء من حفظه وادخاره قبل موعد دخول الطلاب إلى مدارسهم ولمتابعة الأهل لأعمالهم اليومية .
وبإرسال الأهالي لزيتونهم إلى خارج برجا ضعف مورد معاصر برجا ولم يعد أصحابها يهتمون بمعاملهم التي لم تعد ترد عليهم التكاليف والأتعاب , إلى جانب الأعطال التي كانت تلحق بالمعمل من جراء دورانه ليل / نهار 24/24 ساعة وذلك حتى يلبوا رغبة الأهالي وإنجاز عصر زيتونهم والتخفيف من الاحتجاجات على مخالفة المواعيد التي كانوا يتلقونها من أصحاب المعاصر .
مما يلفت النظر ويشعر أصحاب المعصرة بالخيبة فإن الأهالي كانوا يأتون بكميونات الغرباء لنقل زيتونهم من قلب برجا إلى خارجها في كل موسم يعول عليه أصحاب المعاصر وينتظرونه سنوياً بفارغ الصبر والذي كان مورد رزقهم وعيشهم السنوي ، فتكون النتيجة بوار الموسم عندهم والانتظار لموسم قادم في سنة قادمة . وباستمرار هذا الوضع في السنوات اللاحقة بادر أصحاب المعصرتين لبيع معملهما وتحويلهما إلى محلات تجارية .
لا بد لي قبل أن أنهي حياة المعاصر في برجا أن أشير إلى صورة كانت تتعاقب كل سنة داخل المعصرة وفي موسم عصر الزيتون بالذات , ألا وهي تجمع الناس بكثافة حول أوعية الزيت المعصور وبيد كل منهم رغيف أو عدة أرغفة يغطونها بالزيت ويأكلونها وتسمى هذه الظاهرة ( بالبعيّا ) زيت لذيذ ولكن فيه من الحدة مافيه .
وهكذا تستمر هذه الصورة طوال موسم عصر الزيتون , حيث كان الملاكون يرحبون بطالبي ( البعيّا ) أجمل ترحيب فيكرمونهم من زيتهم الطازج دون ما تأفف , بل كانوا يفاخرون بعطائهم من زيتهم لطالبي البعيّا ويعتبرون ما يقدمونه لهم من زيت فيه البركة والخير .
خييييييثر