سماحة المفتي محمد توفيق خالد
هو الشيخ محمد توفيق ابن السيد عمر خالد، جده العلاّمة الشيخ عبد الله خالد ، أسرته تنتمي إلى عرب الفضل التي ترجع بنسبها إلى الفضل بن العباس بن عبد المطلب إبن عم النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ولد الشيخ محمد توفيق خالد في بيروت سنة 1292هـ 1874م، تلقى دروسه الأولى بالمدرسة الرشديّة التي عُرفت بالعسكرية ثم بحوض الولاية ، ثم أخذ بطلب العلم من كبار علماء زمانه، منهم خاله الشيخ عبد الرحمن الحوت، والمفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري، والعلاّمة الشيخ يوسف علايا والد المفتي السابق الشيخ محمد علايا.
بدأ الشيخ محمد توفيق خالد حياته العملية في حقل التعليم فاشتغل مدرّساً للعربيّة والدين في المدرسة الوطنية ببيروت. وفي سنة 1318هـ 1900م أنشأ مدرسة باسم مدرسة التوفيق الإسلامية، ويقوم في مكانها اليوم مستشفى نجله الدكتور محمد خالد رحمه الله.
بعد الإنقلاب الذي أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني سنة 1327هـ 1919م إلتحق بالمحكمة الشرعية في بيروت بوظيفة كاتب ثمّ تدرّج إلى أن أصبح رئيساً للكتبة ثم نائباً للقاضي.
وفي أثناء عمله في المحكمة كان مدرّساً في الجامع العمري الكبير وخطيباً لصلاة الجمعة في جامع البسطة الفوقا. وبقي على ذلك لحين إنتخابه لإفتاء بيروت خلفاً لسلفه الشيخ مصطفى نجا وكان ذلك في سنة 1350هـ 1932م.
جرى إنتخاب الشيخ محمد توفيق خالد في بيت الشيخ محمد الكستي بحضور حوالي 36 شيخاً من علماء بيروت الذين يشكلون الهيئة الإنتخابية للإفتاء في ذلك الحين. ونال الشيخ محمد توفيق خالد آنذاك أكثرية الأصوات، وبقية الأصوات توزّعت بين الشيخ محمد الأنسي ، والشيخ سعيد أياس ، والشيخ مصطفى غلاييني، والشيخ محمد عمر البربير رحمهم الله اجمعين.
وعلى الأثر أرسل الشيخ محمد الكتسي محضراً بنتائج الإنتخاب إلى رئيس الجمهورية وكان يومذاك شارل دبّاس. وقد حمل المحضر إلى الرئيس كل من سليم الطيّارة، نائب رئيس بلدية بيروت وناجي الفاخوري، عضو مجلس الإدارة . وبعد قليل ورد على قاضي القضاة مرسوم جمهوري بتعيين الشيخ محمد توفيق خالد مفتياً لمدينة بيروت وتولّى الشيخ محمد علايا تلاوة المرسوم على الحاضرين.
وتجدر الإشار إلى ان الشيخ محمد الكستي كان له دور كبير في تأمين الأكثرية للشيخ محمد توفيق خالد.
وعندما توفي الشيخ محمد الكستي سنة 1351هـ 1932م أُلغيت رتبة قاضي القضاة التي كان يشغلها الشيخ المذكور. واصبح أكبر مرجع ديني في لبنان مفتي بيروت الشيخ محمد توفيق خالد. وفي أيام إميل إدّه رئيس الجمهورية اللبنانية صدر مرسوم جمهوري بتسمية مفتي بيروت (مفتي الجمهورية اللبنانية) فكان الشيخ محمد توفيق خالد أول من حمل هذا اللقب في لبنان. وفي عهد أول حكومة إستقلالية ألّفها رياض بك الصلح، أصدرت هذه الحكومة قراراً بأن يكون مفتي الجمهورية اللبنانية المفتّش العام للمحاكم الشرعية في الجمهورية اللبنانية.
بقي الشيخ محمد توفيق خالد في منصبه إلى حين وفاته رحمه الله سنة 1370هـ 1951م وتمّ دفنه بمقبرة الإمام الأوزاعي.
بالرغم من أن الشيخ محمد توفيق خالد كان من العلماء المشهود لهم بسعة الإطّلاع والأصالة بالعلوم الدينية التقليدية فإنه لم يقم بتأليف أي كتاب في الموضوعات التي يتقنها، إلا أنّه كان يعتبر فرَضياً كبيراً، وإليه يرجع الناس في علم الفرائض (أي علم المواريث والتركات والوصايا)، كما ترك بصماته العميقة على تاريخ الحركة الوطنية في هذا البلد وذلك من خلال تعاونه الوثيق مع الزعيم الوطني رياض بك الصلح ..
ومن الأعمال الجليلة التي قام بها الشيخ محمد توفيق خالد تأسيس الكليّة الشرعية في بيروت التي شاء أن تكون ذكرى للشيخين الكبيرين عبد الله خالد ومحمد الحوت (الكبير) وهذه الكليّة التي تحمل اليوم اسم (أزهر لبنان) ينفق عليها من الأوقاف التي حبسها الوالي العثماني نصوحي بك بتاريخ 9 ذي القعدة سنة 1312هـ الموافق في 3 أيار سنة 1895م باسم (وقف العلماء) لمساعدة طلبة العلم الديني أثناء دراستهم في بيروت أومتابعة الدراسة في الجامع الأزهر في مصر.
ومن هذا المعهد تخّرج العديد من الطلاب اللبنانيين الذين أهّلتهم كفائتهم العلميّة والخلقيّة لتولي المناصب العليا في القضاء الشرعي وكذلك في المؤسسات الجامعيّة وغير ذلك من الأعمال الحكوميّة وبقية المرافق المفيدة في مختلف مجالات النشاط الإجتماعي والتجاري والثقافي.
يوم الثلاثاء التاسع من أيار عام 1933 زار سماحة مفتي الجمهورية الشيخ محمد توفيق خالد برجا وكان له إستقبال حافل على ساحة عين برجا تحدّث فيه الشيخ محمود البربير رئيس البلدية الذي رحّب بالمفتي باسم الاهالي داعياً له بالتوفيق والنجاح في رأب الصدع ولم الشمل بعد الحوادث التي وقعت بين الطريقتين الشاذلية والقادرية. ثم زار جامع برجا الكبير ومدرسة برجا المتوسطة للصبيان.
الشيخ أحمد عمر الخطيب رحّب بالمفتي فألقى هذه القصيدة:
يا من قبضت على الفتوى بيمناكا فكنت أكبر مفت في مزاياكا
وقمت تخدم للشرع الحنيف بنا كما الإله لعلم الشرع أعطاكا
لن تكتفي أن تفي الفتوى خصائصها بل قمت تنشر في لبنان مبداكا
مبدأ السلامة بين الناس قاطبة فاسلم ودم مرشداً فالله أعطاكا
تريد محو إختلاف لو علمت به وترسم الحب طي القلب يمناكا
تقاوم الظلم مهما اسطعت من عمل والعدل تنصره في سيف تقواكا
يا كوكب العصر دم بالفضل متشحاً يحط في منتهى الإسعاد مسراكا
وأينما سرت كنت البدر مكتملاً تقر فيك عيون حين مرآكا
شرّفتنا فحمدنا طيب عنصركم حمداً يناسب بالتعظيم علياكا
يا قادماً في التوفيق طلعته أهلاً بطلعتكم أهلاً بمسعاكا
فالدور فيك زهت وازينت طرباً والأنس قد عمّ مذ قد تم لقياكا
ولو نشرنا لكم أعلام فضلكم فوق الرؤوس لما كنا وفيناكا
فاقبل شواعر صدقي في مديحكم وانعم عليّ بلطف من محياكا
واقبل رجائي في اصلاح بلدتنا ففي البلاد خلاف ليس يخفاكا
قد خلفته تصاريف الزمان بنا وحاكه كل من قد كان أفاكا
وفي قليل من الإرشاد سوف ترى منا الخضوع لما فيه نواياكا
لأننا ما تعوّدنا الشقاق ولا قد أفسدتنا ظروف الدهر ادراكا
كنا مثال القرى في كل محمدة والآن ينصب فينا الحقد اشراكا
أدامك الله محفوفاً بنعمته يسمو على هامة العلياء مرقاكا
فانظر إلينا بما يرضى الإله به وابتر لسان عنيد فيه يعصاكا