وطني البناؤون … سلاحه القدّوم
هنا نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ جمال نور المعوش في احتفاء جامع برجا الكبير بشيخ البنائين البرجاويين أحمد سعيد الطحش مواليد 1912 وذلك في زاوية الجامع ظهر الأحد 21 رمضان 1432 الموافق 21 آب 2011 م : ” نلتقي اليوم في رحاب جامع برجا الكبير نستنشق عبق التاريخ في هذا المكان المقدس
في جو مفعم بالصوفية والروحانية ، ننظر إلى هذا البناء وإلى سواه نستذكر الماضي البعيد ومعه البنائين والعمارين ممن بنوا بسواعدهم وعرقهم هذه الديار , ومن هؤلاء وعلى رأسهم المحتفى به الحاج أبو علي الطحش أطال الله بعمره .
عندما أبلغني الصديق العزيز الشيخ جمال عن هذا اللقاء التكريمي شعرت بالغبطة والسرور لأهمية هذه الخطوة ومدلولاتها من حيث التواصل مع الماضي وتكريم رجالاته لأن الحاضر ليس سوى نتاج للماضي الغابر ، فالأمة التي تهمل ماضيها لا تستحق أن تعيش حاضرها , وما هذا التقدم والتطور الذي نشهده اليوم خصوصاً في مجال البناء والعمران إلا نتيجة لتراكم المعارف والعلوم والفنون عبر العصور .
أعرف الحاج علي جيداً عندما كنت بعدُ صغيراً ، وكان بيته يزيد بعض الغرف عن بيتنا . كنت أشاهد قدومه في الصباح الباكر منتصباً كالرمح بثيابه الكاكية وشاله الأبيض ، سلاحه القدّوم يشكله في زناره ، وجه منبسط بشوش يبعث على التفاؤل ، لا زلت أذكر طرفة حديثه وسعة معرفته وما يتمتع به من مزايا وفضائل وسلوك سوي , قوامه الصدق والإخلاص في العمل والعلاقة الحسنة مع الغير , القائمة على المودة .
أيها الأعزاء : إن من يبني هو كمن يعلّم ، فبناء الحجر مقدمة لبناء البشر , نبني داراً , وفي هذه الدار نكوّن أسرة يجمعها الزواج والعيش المشترك تحت سقف هذه الدار , ومهمة الأسرة تنشئة الأطفال وتعليمهم وتدريبهم على قواعد الحياة ليخرجوا إلى المجتمع مزودين بالعلم والمعرفة . فكم بذل أبو سعيد من جهد وكم تحمل من عناء في سبيل تحصيل لقمة العيش له ولأسرته ولتربية أولاده على كل ما هو صحيح وقويم بحبه له ولكل الآباء والأجداد أهل الكد والعمل الذين تحمّلوا شظف العيش وحياة التقشف في سبيل أن نحيا ونعيش .
أيها الأخوة : في ذات الوقت الذي نعتز فيه بما أنجزه البناؤون من أبنية تراثية وتحف معمارية لا تزال شعوب الأرض تحافظ عليها وتصونها وتخلّد من بناها في ذاكرة الأجيال , ينتابنا هنا وفي بلدتنا برجا شعور بالقلق لهذا التحوّل العمراني العشوائي القائم على قدم وساق , فبعد أن كانت البيوت صغيرة تتجمع في حارات متجاورة يجمع بين أفرادها التعاون والتضامن في الأفراح كما في الملمات والشدائد إذ بنا أمام بنايات شاهقة ومجمعات سكنية لا هوية محددة لها , يسكنها مواطنون من أماكن متعددة , مما أدى إلى تغذية روح الإنفصال عن الجماعة وتراجع قيم القرية أو البلدة إلى قيم حديثة قائمة على المنفعة والمصلحة والحرية الزائدة البعيدة عن بعض القيم الأخلاقية التي حافظ عليها الآباء والأجداد ، فلا أظن أبا سعيد مسروراً بهذا التحوّل . لا يعني ذلك أبداً التمسك بما هو قديم وعدم تقبل ما هو جديد بل المحافظة على هذا التراث وتحديثه مع ما يتناسب مع روح العصر ومع هذا التقدم والتطور .
أقول للحاج أبي سعيد : هنيئاً لك على ما قمت به في حياتك وما يعنيه ذلك من حفاظ على الأرض وعلى الهوية ، وأقول له أيضاً : إن كل يد خشنها العمل هي يد مباركة ثواب صاحبها الجنة والخلود .
هكذا نبني الأوطان ، وطني البناؤون ، وطني الفلاحون ، وطني المثقفون , والغار والزيتون ، وطني لبنان ” .