حيث ينام حنينك يا مفتّت الصخر
الكلمة التي ألقاها شيخ الجامع الكبير في برجا الشوف جمال بشاشة في احتفاء الجامع بكبير البنّائين البرجاويين الحاج أحمد سعيد الطحش ( المولود 1912 ) يوم الأحد 21 رمضان الموافق 21 آب 2011 في زاوية جامع برجا الكبير : ” من فضائل الحياة الجليلة حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوفاء … وحين يتحدث عن الوفاء ، فلا ينبئك مِثلُ خبير … أحاديثه عن الوفاء كأحاديثه عن كل شيء ، تبدو وكأنها تشكل قانوناً وترسم منهجاً … والوفاء عند الرسول حق وواجب , حق لك عند الآخرين ، وواجب عليك تجاههم .
هل تبصرون الشيخ أبا علي أحمد سعيد الطحش ؟ إن رسول الله يقول : ” ليس مِنّا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا ” .
هنا نوع من العلاقات الإنسانية يتسم بالنبل وبالوفاء , بالنبل لأن هؤلاء الطاعنين في السن ، تكريمهم أقرب إلى الإخلاص والصدق … وأما الوفاء فلأن كل تكريم لهؤلاء يعني الوفاء لما قدموه للحياة والأحياء .
وما أبهاه النبي وهو يغرينا ويحفزنا على احترامهم فيقول : ” البركة مع أكابركم ” .
عندما نتحدث عن أبي علي فإن الحديث مربوط إلى قلوبنا ، إنه واحد من الجيل الصالح الذي عمر الضيعة … كل حجر فيها مشدود إلى أهدابه ، مرمر حجارتها بها ، حجراً حجراً ، فما بقي حجر إلا ومسح جبهته به ألف مرة ومرة .
ما من صخرة هناك إلا وحفرت قلبه في عروقها .
نعم ، أبو علي الحاج أحمد سعيد من الجيل الذي حفر قلبه في الصخور .
” ما في يوم شرقت فيه الشمس وأنا بالبيت ” هكذا يقول . الحاج بو علي إبن المقالع ، إبن القلاع ، معمرجي من طراز أول ، قصاب للصخر ومفتت … فتح عينيه على التجوال في ربوع لبنان … من الجبل للبحر … على دوابه حمل الشرانق أيام موسم العز وقطف الحرير إلى بنويتي وبيت الدين ودير المخلص وعين تريز .
جده الحاج علي الطحش المتوفى قرابة 1930 ترك له الإرث الغالي وهو جد العيلة في الضيعة .
كلما نزل السواح من البواخر الآتية عبر البحار إلى لبنان كان أول دعائهم أن يحظوا بالطحش لحُسن معاملته ، فقد كانت له قافلة من البغال والخيول تنقلهم إلى فلسطين وأطراف الشام .
والده المهول سعيد علي الطحش كان حبة قلبه ، ما مر في طريقه وهو يقطع وديان جبل لبنان ، ما مر على خسْفة أو على جل منهار إلا ووقف وأخذ يُعيد البنيان دون منة وحساب .
الحاج أبو علي وجهك هو وجه الخير في ضيعتي ، بعد جيلك بارت الأرض ، وما فاضت بالخيرات … نعم ظلت البركات تفيض إلى أن كبرتم … ماء الضيعة صار بعدكم قاسياً ويابساً .
عمّر يا معلم العمار وعلّي حارتنا … كان كبير المعمرجية والبنّائين الشيخ بو علي … أو ما بدأ بعمار مدرسة البنات على بيادر حارة العين هو وأخوه محمد ، كل برجا سارعت للتبرع عام 1936 حسن بو كيوف الجد تبرع بنقل البحص والرمل من جدرا ( مع إنو ما كان معو يعشي دوابو ) والد بو علي المهول تبرع بتأسيس المدرسة … بعد شهر ونص كانت المدرسة خمس غرف والدار .
من عمار مدرسة الصبيان وهي سراي برجا اليوم إلى عين الماء على ساحة العين المتروكة المهملة اليوم وعلى مر العهود البلدية ( عين المي يا أخواني هي التي منذ عقود وفي صدرها غصة ، من ينزل إليها اليوم يرى الغصة تفيض في عينيها ) .
عمارات وعليات برجا الضيعة تشهد على مهارة الحاج بو علي …
عمارة الشيخ توفيق سعد بحارة الجرن ، شكيب الخطيب بحي الجامع ، علّية خضر أمين المطلة على ساحة العين وما زالت من أبدع العلّيات ، علّية الحنتيت وشحود … عمارة أحمد حسن الشمعة بضهور حارة العين بأعالي العريض وأختعا عمارة كمال بو مرعي ، لدار علي حوحو بحارة البيدر لبيت مصطفى حيدر الحاج بالحمرا بحارة العين … يتحسر عليه الحاج بو علي لأنهم كلسوه فقد جلب حجارته المهيبة من الداهودية قرب المصيلح بالجنوب .
جامع سيدي عبد القادر الجيلاني يشهد على تفاني بو علي ، مدرسة الإيمان ، مدرسة الديماس … والقائمة تطول وتطول .
يكاد كل حجر يعرف الحاج بو علي في ضيعتي ، ويعرفه بو علي … في محبة قلبه وسخاء قوته .
ها هي بيوت برجا العتيقة تلتفت إليه وعندها عتاب : إلى أين يا عمّار الحجر ويا مفتت الصخر ؟ هنا تقيم روحك … هنا على أعتابي شقفات من قلبك ، هنا الأيام كانت لك تصفو ، هنا ينام حنينك .
يا حاج بو علي ، أنت وجيلك شيوخنا المباركون ، البركة أنتم ، البركة في حياتنا … كانت الأرض سخية في أيامكم ، وقلوبكم سخية في محبة الأرض … أيديكم لا تعرف غير العطاء … أنتم تعطون والله يملأ بطن الأرض بالخيرات ويعطيكم .
أنت وجيلك حوّلتم الصخر إلى بيوت ، والغاب إلى كروم … وفيتم للأرض فوفت لكم .
ألم يقل أديب لبنان : وطني البنائون ؟ .
بعدك يا حاج بو علي وبعد جيلك وكما أنبأنا فؤاد سليمان الأديب في تموزياته : لم نعد نشبع من العنب ، وما شبعنا من القمح ، يبست العناقيد على أمهاتها ، لم تشبع البقرات فقد يبس الورق مع العناقيد .
قالوا : إن دودة نخرت الأشجار في ضيعتي … وقالوا : إن السماء كانت بخيلة بالمطر في هذا العام .
ولم يقولوا : إن يد الخير في ضيعتي قد تحولت إلى يد كسولة ، إلى يد بطّالة ، قاعدة وعاجزة ” .