جدار الموزاييك في برجا … سمك ولبن وتمر هندي
من المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ” كونوا كأنكم شامة بين الناس ” و ” إن الله جميل يحب الجمال ” خطاب لكل من ينتسب لهذه الأمة ، ولكل من يريد لها أن تنهض من كبوتها وركودها .
ولا أدري كيف يتقدم مجتمع وليس للجمال عنده نصيب , أو ليس في خلده معايير لكل أمر وشأن ؟ في أدنى الأمور للإسلام آداب وتوجيهات . وهي تنتظم شؤون الفرد جميعها , ألم يقل عليه السلام : ” الإيمان بضع وسبعون شعبة , أعلاها : لا إله إلا الله , وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ” . أنظروا إلى ما قاله بعض المشركين للصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه : ” لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة – يعني دخول الحمام – قال : أجل , لقد نهانا النبي عن كذا وكذا …. ” غاية الكلام أن جمهوراً كبيراّ في برجا اليوم ربما يحتاج إلى صدمات كهربائية لتصحيح وعيه وإيقاظ ماتخدّر من حسّه , كالمرضى تماماً , كي نحسن الخلاص مما نحن فيه .
ولقد تعوّدنا على أن النظام كلام , والقانون , أي قانون أن ليس له صفة الإلزام , فعشنا خبط عشواء , في فوضى غير مسبوقة تجتاح حياتنا كلها .
في عهود البلديات السابقة , في العشرينيات من القرن الماضي كان رئيس بلدية برجا الشيخ العالم محمود عمر البربير المتوفى عام 1970 , يحدد لكل برجاوي البقعة من أمام داره التي ينبغي عليه كنسها وتنظيفها في الحارات وبين الدكاكين , وهكذا تظل برجا نظيفة بهية مشغولة بجمالها .
ونظرة خاطفة لواقع الضيعة اليوم تكشف عن انحدار غريب في النظافة والبيئة المحلية . من يجول في حارات برجا يصعق مما يرى من تدهور لا مثيل له , حتى في البلدان المتخلفة , في مستوى النظافة والمحافظة عليها .
ما أود قوله عن الجمال وعشقه , عن الارتقاء والهيام به , ما صنعه نبيل يحيى سعد , مؤرخ برجا ومحيي تراثها بفنه التشكيلي الباهر , الذي نتباهى به في كل محفل ومناسبة , الذي انتقل به بين ربوع لبنان , حاملاً صورة برجا الخالصة الجمال التي نعتز بالانتماء إليها والعيش في ربوعها .
أنى اتجهت وطالعتك لوحة فنية تفيض بعبق التاريح وتنضح بالحنين والأنس , أينما نظرت فوجدت برجا ساحرة النضارة والخضرة فاعلم أن نبيل هو راسمها ومشكّلها . إنه هيمان , وياطول هيامه !
ثلاث جداريات من الموزاييك الدقيق – وهي اليوم مهملة ومتروكة عند تقاطع المعبور والديماس والحفّة – أنفق نبيل أياماً وأشهراً في تركيبها وصفها , وأمضى وقته في التنقل بين الساحل والجبل ليجلب لبلدته مظهراً من مظاهر الرقي والابداع .
أعرفه ، كلما طفنا في قرى وبلدات لبنان ورأى فيها مايبهج القلب ويغري بالمحاكاة , تمنى أن لو يكون لنا في برجا مثل مارأى …. جداريات ثلاث دفع نبيل مجلس بلدية برجا السابق للموافقة على قيامها في جدار مناسب ومنظور , وما طلب إلا تكاليف المواد وتيسير العمل , مع أن كل جدارية من مثل جداريات نبيل تدر على صاحبها في بلاد الناس مبلغاً ما يستهان به , ولكنه امرؤ مغرم بحب برجا , محكوم وحكمه مبرم .
جداريات لم يصل نبيل فيها مع المجلس السابق إلى نهاياتها المحمودة , رغم أن مابقي لإنجازها لايتعدى التلوينة الأخيرة , ثم كان ما كان ….. إلى أن وصل إلى عرش سراي برجا الشوف مجلس بلدي جديد عام 2010 حلمنا بفوزه بتباشير التغيير والآمال العراض إلى أن تبدد الحلم وطفح الكيل بالعجز .
إذا كان المجلس البلدي عاجزاً ما يقدر على شيء , حتى في أبسط الأمور , عند ذلك فلا بد من رفع الصمت , فأيامنا وحاضرنا ومستقبل بلدتنا ليس ملكاً لأحد يتصرف فيه كيفما شاء وأنى شاء !
نعود إلى جداريات الموزاييك الثلاث ، فمنذ العهد السابق , وعندما تزيّن التقاطع بإبداعات الفنان نبيل ، إلى عهد المدينة الفاضلة الأفلاطونية اليوم في ظل المجلس الحالي ، ما انفك هواة يافطات الخام البدائية , والتي توحي بالتخلف عن ركب الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة من نشرها على الجداريات وتشويهها ، في مشهد ينم عن انعدام الاحساس بالفن فضلاً عن تقديره والمحافظة عليه . كلما عنّ على بال مغن درجة سبعين وألف تمتيع الناس بوصلة منه ، نشر يافطته الزرية القبيحة فوق ” لاإله إلا الله محمد رسول الله ” وهي الجدارية القائمة على اليمين ! . وكلما أراد أخر شحن الرأي العام البرجاوي ضد الاستكبار العالمي وأميركا وإسرائيل هدد وتوعّد وبسط خامته على واحدة من روائع الجداريات ! وحينما يشتد الوجد والشوق بتابع إلى متبوعه وزعيمه نصب إعلان خام على رؤوس الأشهاد يقول : ” أمة أنجبت فلاناً وفلان لن تركع ” وقس على ذلك من إعلان تحصيل الضرائب للبلدية إلى إعلانات المدارس والمعاهد التجارية والتهاني بالأعياد والمناسبات والمعارض على أنواعها ، وهكذا كل من يرغب بإثبات وجوده وعراقته في العمل العام طلع علينا بيافطته الخام .
النظم والقوانين توضع لتدبير أمور الناس وحماية مصالحهم وضبط شؤونهم وقواعد سلوكهم وأمنهم ودعم التقدم والتطور والابتكار في المجتمع . فإذا ترك لهم الزمام سادت الفوضى وعم الفساد …الكل يعرف أن قانون البلدية لايجيز لأحد وضع يافطة إلا بإذن منها ، فهل نال أحد منها الإذن ؟ وهل وظيفة الشرطة البلدية تنظيم السير في مربع ضيق وشريط محدود فقط ؟ إن السلطة إذا لم تكن سلطة , فما تكون ؟ .
والأنكى من ذلك أن بلدية برجا الشوف هذا العام ولاستقبال شهر رمضان ما وجدت إنجازاً لتنجزه إلا مزاحمة ثلة من الشباب الغيور ، زيّن ساحة العين ودرب الجامع الكبير ، وهرعت إلى تقليدهم بأسلوب بائس ، فنصبت قدّام الجداريات مصابيحها النايصة حتى يكتمل المنظر الأخاذ !! وهكذا راق المشهد وصار : سمك ولبن وتمر هندي !!!
السؤال الذي يهاجمنا كل يوم : متى نصير مثل بلاد العالم ؟ ….. تصوير : محمد حسين دمج .