أوطاننا المريضة
كتب الأستاذ غسان شربل : تكسر القلب المشاهد الوافدة من مصر . تكسر القلب خصوصاً لأنها من مصر . من الدولة المؤتمنة على دور رائد في العالم العربي . الدولة التي يرشحها تاريخها وموقعها وحجمها لأن تكون معدية في نجاحاتها وفي الانكسارات . الدولة المشعة بخياراتها وكتابها ورواياتها وأفلامها. لا تستطيع الأمة ادعاء الصحة إذا كانت مصر مريضة . مصر تجربة . ومختبر. وامتحان. في التعايش . وفي القدرة على الانتقال إلى الديموقراطية. وفي إمكانات بناء الدولة المدنية . وترسيخ مفهوم المواطنة . وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات. التساوي أمام الشرطي. وأمام المحكمة. وأمام حق المشاركة في صناعة الحاضر والمستقبل.
لم يكن مفاجئاً أن تطل مشكلات كثيرة. وأن تكون المرحلة الانتقالية صعبة. وأن يشعر الحالمون والمظلومون وأصحاب المطالب بنفاد الصبر. وأن ينزلقوا إلى الإلحاح على الحد الأقصى من المطالب. وأحياناً في شؤون حساسة وخلافية. زاد في التعقيد افتقار من يفترض أن القرار بيدهم إلى رؤية واضحة. والقدرة السريعة على اتخاذ القرار المقنع وحمايته. ضاعف التردي الأمني من حجم المخاوف. أعطى انطباعاً انه ليس بريئاً.
مشهد خطر أن تتحول مسيرة لأقباط إلى صدام دموي مع الأمن. ضاعف الخطورة تطوع شبان مسلمين للمشاركة في قمع الاحتجاجات القبطية. فاحت رائحة الفتنة. أطلت بوادر الحرب الأهلية.
سمعنا بعد المشاهد المؤلمة كلاماً كنا سمعنا مثله من عراقيين ولبنانيين وآخرين. ومفاد الكلام أن الأصابع الخارجية تقف وراء ما يجري. وتحاول زرع الفتنة. والنفخ في نارها. وأن الأمر مؤامرة صريحة على مصر وثورتها وفرص انتقالها إلى الديموقراطية.
تقول التجارب إن الحديث عن مؤامرة خارجية هو الحل الأسهل الذي يعفي أي سلطة من مواجهة الحقيقة. وإن أنظمة كثيرة عاشت على هذه اللعبة واستخدمتها لتبرير القهر والاستبداد. وجعلت من مطالبة أي مواطن بالكرامة أو الحقوق ضلوعاً في المؤامرة الخارجية يبرر الشطب والإلغاء ومصادرة الحريات وتعطيل الدستور. وإن حديث المؤامرة هو نتاج طبيعي لسياسة الإنكار. إنكار حقيقة الأمراض التي تعانيها مجتمعاتنا والتي تفاقمت بفعل سياسات الإنكار والخوف من التسامح واكتشاف عائدات اللعب على انقسام المواطنين وتوظيف مخاوفهم في إدامة عصر الفساد والاستبداد. هذا لا يلغي بالطبع احتمالات التآمر من الخارج أو الداخل. لكن المؤامرة لا يمكن أن تصيب قدراً من النجاح ما لم تكن المشكلة قائمة ومتفاقمة والأعصاب مشدودة والعصبيات مستنفرة. ولا ينحصر الإنكار بالسلطة. الأحزاب أيضاً تتهرب من ثمن الاعتراف بالحقائق المؤلمة.
لدينا رغبة عميقة في الهروب من مواجهة الحقائق. انكر اللبنانيون طويلاً وجود مشاكل بينهم وعلقوا ويلاتهم على مشجب المؤامرة الخارجية وهي لم تكن غائبة. وبعد سقوط صدام حسين انكر العراقيون عمق الانقسامات بينهم وعلقوها على مشجب الاحتلال الأميركي وهو لم يكن بريئاً. لكن الوقائع تقول إن لبنانياً قتل جاره. وإن عراقياً قتل جاره. وإن إخفاء النزاعات الطائفية والمذهبية لا يساهم في حلها. إنه الهروب من الاعتراف بأن مجتمعاتنا مريضة بالطائفية والمذهبية والجهوية وعصبيات كثيرة. إنه العجز عن قبول الآخر في مجتمعاتنا والتعامل مع اختلافه كخيانة أو تهديد. إنها الرغبة في إنكار حق الآخر في الاختلاف والتي تصل أحياناً لدى المتعصبين في الأكثريات والأقليات إلى أحلام من قماشة الشطب والإلغاء ومحو الملامح أو الانكفاء إلى الإقليم ورسم حدوده بالدم. ما يصدق على البلدان التي تكشفت ويلاتها يصدق أيضاً على بلدان أخرى.
نريد أوطاننا بهية وكاملة غير مشوبة بأي جرح أو سؤال. لهذا نطمر مشاعرنا الحقيقية ونوايانا. ويكبت الحاكم الأسئلة فتتعاظم المخاوف وأحاسيس الكراهية والرغبة في الثأر عند اول سانحة. ليس معيباً أن نعترف أن أوطاننا مريضة. وأن الوطن يتشكل فعلياً من مجموعة جزر أو أقاليم سرية بني كل واحد منها على تشابه اللون وزعم امتلاك الحقيقة المطلقة. وأن دولنا، في غياب المؤسسات الجامعة ومفهوم المواطنة، هي مجرد أغطية واهية سرعان ما تسقط أمام الأزمات الكبرى.
لا حلول عجائبية أو سريعة لمشكلات تراكمت وتفاقمت. الحل الوحيد هو الدولة التي تقوم على المواطنة والمساواة والمؤسسات وقبول الآخر والشراكة معه في ظل الدستور والقانون. والحل يبدأ بالاعتراف أن أوطاننا مريضة وتحتاج إلى إعادة توحيد مكوناتها على قاعدة الحق في الاختلاف. لقد كذبنا طويلاً على أنفسنا وشعوبنا وحان أن نعترف . ( إفتتاحية الحياة 11 تشرين الأول 2011 ) .