رزق الله ع إيامك يا بو قاسم
كتب أ . جمال نور المعوش : من الوجوه التي تركت أثراً كبيراً في نفسي والذي لا تزال صورته تراودني كلما عدت بالذاكرة إلى الوراء ، وجه دمث عفوي بسيط ألفته منذ الصغر هو أبو قاسم صاحب الحانوت المتنقل على الظهر , والذي يبيع الخردوات والسكاكر وما استطاع حمله على كتفيه في طرقات وزواريب وأزقة بلدتنا برجا .
اسمه أحمد أبو خانة وكنيته أبو قاسم مع أنه لم يتزوج ، لقبه هو (الديدوني) نسبة إلى طول أذنيه وهو لقب أطلق عليه تحبباً وليس سخرية أو تهكماً , والألقاب بالمناسبة كانت شائعة في معظم قرى إقليم الخروب وفي عموم لبنان وفي برجا بشكل خاص ، والذي لا يزال الجيل القديم ينادي بها إلى غاية اليوم .
قصير القامة ، طويل الوجه ، جبهة عريضة ، ورأس أصلع ، عينان صغيرتان تحت حاجبين غليظين ، شارب خفيف يدل على الكآبة ، تجاعيد الوجه ظاهرة للعيان بفعل الزمن . يلبس شروالاً عربياً وجاكيت كاكية اللون , أزرارها بيضاء فاخرة يرتديها رجال الدرك في ذلك الوقت قدمت إليه من أحدهم بعدما استغنى عنها بزي جديد . ظل يرتديها طوال حياته مع قبعة مستديرة كاكية أيضاً قليلاً ما كان يضعها على رأسه رغم شدة الحرّ .
سألته أي ساعة بتفيق يا أبو قاسم (تستيقظ) ؟؟ أجاب : ما معي ساعة يا عم ، بنام عند العشاء وبفيق عا وج الصبح ، بصلي وبأكل لقمة مما بقي عندي من طعام الأمس وبشرب شاي وبس يجهجهه النهار بحط الكيس وبمشي ( والرزقة على الله ) . كان مؤمناً بالمثل القائل ” حلاقة بالفأس ولا عازة الناس ” و ” وفلاح مكفي سلطان مخفي ” أما العودة فمع حلول المساء .
أكياس أبو قاسم عبارة عن كيسين خام كانا يستعملان لوضع الطحين .
كيس إلى الأمام وآخر إلى الخلف يربطهما ببعضهما جيداً ويبعد العقدة عن الكتف كي لا تزعجه في المسير ، يتدليان ليبلغا قدميه ، كنت أتساءل كيف يستطيع حملهما طوال النهار ؟ فيرد : ” الله بيعين وبقوّي ” . كل يوم مخصص لحي واحد أو حييّن بحسب الحجم . كان يمر بجانب بيتنا كل أسبوع أو عشرة أيام , نسمع صوته منادياً من بعيد ( معنا حلقوم وبسكوت ، معنا فستق وبزر ، معنا خيطان وأبر ووو … ) وما أن يجلس على المدّ ( مقعد خشبي يوضع أمام المنزل وعليه بساط ومساند قش ) يفتح الكيس الأول وفيه إضافة إلى ما ذكر في المناداة , ( كرز كبير وصغير ومذبح وهو لذيذ الطعم بالنسبة لنا نحن الأولاد وشاي وبن وسكر وقدامة وملبس وسكر نبات الذي يقوي الصوت ، أما الكيس الآخر ففيه أبر لبابور الكاز الرائج في ذلك الوقت ، حبال لنشر الغسيل ، قطع نيل صغير يستعمل لغسل الثياب ، علب شحط (كبريت) والأسعار تبدأ بخمسة قروش وما فوق … تسأل أمي شاياتك مناح يا أبو قاسم ؟ فيجيب : مستدركاً أوف !!! أنا ما بشرب إلا منهم وفلان , في إشارة إلى أحد أغنياء القوم كان ما يشرب إلا من شاياتي ، فتقتنع وتشتري .
يقبض النقود ويضعها في كيس صغير مربوط ثم يسقطه في جيب شرواله مردداً ( الحمد لله ) ثم تعرض عليه الطعام ( بتلف رغيف مرقوق مربى التين ، لبنة ، زيت وزعتر … ) يرفض بداية ثم يقبل بعد إلحاحها وإصرارها ، يأكل رغيفه ويشرب الماء ، ينهض ويضع الكيس مجدداً ويمضي يمشي خطواته صعوداً ينوء بحمله … ننظر إليه ونتمنى عودته في أقرب وقت ، وما أن ينقضي الأسبوع حتى تسمع صوته قادماً من بعيد ، فنفرح وتثلج صدورنا . فأبادر
مسرعاً منادياً أمي ( إجا أبو قاسم يا أمي بدي أشتري بسكوت وحلقوم ) . فترد : مقضيةة هالجمعة بلاها , وما أن اسمعها تقول ذلك حتى أصاب بالقهر والإحباط ، وقد اضطر للبكاء علّها تشفق عليّ ولكن بدون جدوى ( مافي مصاري معي اليوم ) وتحاول أن تهدأني بأن تعدني ( بدي أعملك سمسمية – نوع من الحلويات – بتتحلى وبتنام ) فأقبل على مضض .
هكذا كانت أيام أبو قاسم تعب وكدّ وعرق يتصبب في كل حين والعشا – خبيزية وخضار كما يقولون – عيشة فقر وتعتير . يردد ( هات نبيع وهات ما نبيع ) ماشي الحال عشنا أيام صعبة زمان اشتهينا العضة بالرغيف اليوم بضل أحسن . ردّدت أمامه مرة متسائلاً بعدما رأيته منهكاً لا يستطيع نقل خطاه : جيب حمارة أو دابة يا أبو قاسم بتريحك من هالحمل . فيجيب : ( الحكي هيّن ما بيتناسبني بتعبني أكتر وبكون بهمّ بصير بهمّين ولماذا ؟ طرقات ضيقة وطلوع وشواليق ودراج لا تتحملها ثم بدها أكل وشرب ومكان تنظيف ووو …. ) وبلاها لبكة كلها . وأنا أسمع بدون ما أقتنع .
وتمضي الأيام على هذا المنوال يكبر أبو قاسم ونكبر نحن الأولاد ونصبح شباباً إلى أن ينتهي به الأمر متوفياً بشكل مأساوي ، محترقاً في الغرفة التي يسكن فيها في حي المعبور في ليل مظلم كئيب دون أن ينتبه إليه أحد .
حزنت مع الكثيرين من أبناء البلدة حزناً شديداً على أبو قاسم وعلى أيام أبو قاسم ، حزنت تذكراً لعفويته وبساطته وعلى شظف العيش ومرارة الأيام التي عاشها . لم تعد مهنة أبو قاسم موجودة . إنتشرت المحلات الحديثة بكل ما فيها مما لذ وطاب ولم يعد للدواب والحمير مكان في ظل الطرقات ووسائل النقل الحديثة . وأولاد اليوم يعيشون حالة ترف ورخاء يؤمن فيها مستلزماتهم في كل وقت لا ينتظرون بلهفة كما كنّا نحن ليأتي أبو قاسم أو غيره ولا للبسكوت والحلقوم ، لكني أجزم بالمقابل أننا كنا فرحين أكثر منهم في ظل حالة التقشف والحرمان التي عشناها .
يقول أنيس فريحة في كتابه ” إسمع يا رضا ” : كنا نلعب بالشوك الذي يدمي أيدينا لكنا كنا سعداء بما نقوم به أكثر بكثير من ألعابكم اليوم ( موجهاً كلامه لابنه رضا ) .
رحم الله أبا قاسم ، وقد يتساءل البعض وما الفائدة من الحديث عن هذه الوجوه فما مضى قد مضى ؟ وأنا أقول : إني كتبت عن أبي قاسم وعن وجوه متعددة قبله وسأكتب إن شاء الله عن وجوه جديدة أيضاً لرغبتي في أن يتعرف الجيل الجديد على سلوك الآباء والأجداد وعلى أنماط عيشهم وحياتهم لعله يستفيد منها في حياته الحديثة وفي هذا المجتمع الإستهلاكي الذي يعيش فيه وهذا موضوع سنخصص له كتابات لاحقة .
و رزق الله لما كان يمر بحينا ويقول ( معنا سمسم ، كربونه ، بكر ، مغيط ) والله ذكرتونا بالجار رحمة الله عليه
سقى الله ع هديك الإيام بعدها صورتو بخيالي ع دراج حارة العين
شكرا استاذ جمال على هذا المقال. بارك الله فيك
ان برجا المستقبل تحتاج لبرجا الماضي
فكرة جيدة في المتابعة وبعد ذلك تضع جميع المقالات في كتاب.