العقل البرجاوي: القروي المتمدن
كتب د. حسن منصور الحاج : إنطلاقاً من مفهومنا للتراث كفعل معرفي تأصيلي في مسار وعي الحقيقة وتأسيس المستقبل ، وفي إطار ما بدأناه ، في مقالات سابقة ، من محاولات لفهم ذاتنا ،حيث استخدمنا مصطلح ” العقل البرجاوي ” كأداة منهجية قد تمكّننا من رصد ووصف ظواهر السلوك البرجاوي على خلفية نظام من العلاقات والمفارقات سمّيناه ” العقل البرجاوي ” ،
وحيث عرضنا في مقالة أولى سمات هذا العقل ومن ثم باشرنا في مقالتين تاليتين عرض مفارقاته مبتدئين بمفارقة البسيط المركّب وبعدها بمفارقة الثابت المتجوّل . أما الآن فنحن بصدد طرح مفارقة أخرى قد يشعر بها كل مواطن برجاوي ألا وهي مفارقة القروي المتمدّن ؛ ونقصد هنا بالمتمدن إبن المدينة وليس المعنى العام للمدنية وحضارتها .
في البداية، وقبل الدخول في قلب المفارقة الإشكالية ، لا بد من بعض الملاحظات المنهجية التي قد تنير لنا طريق العبور إلى عمق الظاهرة :
- أولاً : ما هو مفهوم القرية وخاصة القرية اللبنانية ؟ من المعروف أن القرية هي عبارة عن بقعة صغيرة من الأرض تكونت فيها الشروط الأولية للحياة من مياه ونبات وهواء نقي تعيش فيها مجموعة من الناس تربطهم علاقات معينة مثل القربى أو الدين أو العنصر أو المنشأ . وبسبب بعد القرى عن التجمعات السكنية الكبرى التى تسمى المدن ، وبسبب صعوبة ظروفها الطبيعية ، تميز أهلها بشدة المراس وبالقدرة على التكيف مع الظروف المناخية والاقتصادية كما تميزوا بعادات وتقاليد التكافل والتضامن فيما بينهم في شتى الظروف .
- ثانياً : ما هو مفهوم المدينة ؟ باختصار، المدينة هي بقعة كبيرة من الأرض يسكنها عدد كبير من الناس يحكمهم نظام من العلاقات قائم على الربط بين المراكز الاقتصادية والإدارية والسياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية . على ذلك فإن أبناء المدن يخضعون في حياتهم إلى نظام معقد جداً من العلاقات بحيث ينعكس ذلك في الشخصية والسلوك كما ينعكس على مستوى العلاقات الاجتماعية والفردية بحيث يسيطر نوع من علاقات اللامبالاة والتجاهل المتبادل بين أبناء المدينة أو حتى بين سكان البناية الواحدة.
- ثالثاً: إذا عدنا إلى برجا فإننا نلاحظ التداخل فيها بين عناصر القرية وعناصر المدينة. هذا الوضع يهيئ بشكل ملحّ لطرح الإشكالية التي تضغط على الوعي البرجاوي وتجعله ساحة للتفاعل وللصراع بين جانبيه القروي والمديني . ولكن كيف يتجلى هذا التفاعل وكيف تظهر عناصره ؟ هذا ما سنحاول تظهيره فيما يلي .
نبدأ أولاً بمحاولة رصد “العقل البرجاوي” في ظهوره القروي أي أننا سنحاول الإشارة إلى العلاقات والظاهرات القروية التي ما زالت راسخة في نظام “العقل البرجاوي” ومن أهمها:
1. علاقة الانكشاف على الآخر بمعنى أن البرجاوي حين يتخذ قراراً بشأن حياته فهو في معظم الحالات، شاء أم أبى، يكون عرضة للانكشاف سواء عبر التشاور أم عبر التدخل أم عبر التأويلات المختلفة من قبل الأهل والأقارب والأصحاب أو حتى أحياناً من قبل رواد المقهى والساحة العامة. إن علاقة الانكشاف هذه ما زالت من آثار ورواسب العلاقات القروية الأساسية حيث أبناء القرية الواحدة مكشوفون على بعضهم البعض وذلك لقلة عددهم ولعلاقات القربى التي تربطهم. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الظاهرة بدأت بالانحسار تدريجياً في السنوات الأخيرة إلا أنها ما زالت موجودة.
2. علاقة القربى ما زالت تظهر بدرجة معينة من القوة رغم انحسارها قليلاً في بعض الأوساط. وتظهر هذه العلاقة بشدة في حالات الأفراح والأحزان والمرض وفي بعض الحالات الاجتماعية حيث تبرز الحاجة إلى مساعدة القريب.
3. علاقة التضامن الاجتماعي ما زالت قوية في برجا حيث نرى المشاركة الفعالة بين الناس في الأفراح والأحزان والنشاطات الاجتماعية والتراثية؛ ومهرجان جمعية بيت التراث السنوي يشهد كل عام، من حيث الحضور الكثيف والمشاركة الفعالة، على وجود تلك الميزة التضامنية. كما ان ظاهرة المؤاساة وتقديم التعازي تظهر بشكل لافت عند الشباب كما عند الشيوخ. أضف إلى ذلك نشاط الجمعيات الخيرية التي تساهم في الإبقاء على روح التضامن والتكافل بين أبناء القرية الواحدة.
4. ظاهرة الأعياد والمواسم أيضاً ما زالت موجودة في برجا؛ ففي الأعياد الكل يلتقي الكل وكلمة “ينعاد عليكم” تتكرر طوال أيام العيد ويتم تبادل الزيارات بين الأقارب والأصدقاء والجيران ويجتمع عدد كبير من الناس أول أيام العيد على الجبانة حيث يتم التواصل بين الأموات والأحياء. ومن المواسم القروية بقي لنا موسم الزيتون حيث يجتمع الناس في الحقل على القطاف وتتجدد فيما بينهم أواصر الصداقة فيأكلون سوياً من أجل العيش والملح.
5. ظاهرة غياب البنية الاقتصادية المدينية حيث لا يوجد في برجا المؤسسات الأساسية الضرورية لتشكيل دورة اقتصادية سليمة؛ فلا وجود للمصارف ولا للمصانع ولا لشبكة طرقات منظمة.
6. ظاهرة الساحة العامة أو “ساحة العين” حيث نجد في برجا مثل باقي القرى ساحة عامة كان يلتقي فيها أهل القرية ويتجمعون حول عين الماء يتسامرون ويتناقلون الحكايات والأخبار ويتخذون القرارات. إن “ساحة العين” في برجا شهدت محطات كبرى في تاريخها. أما اليوم ما بقي منها عين الماء وتمثال جمال عبد الناصر وبعض المقاهي البسيطة التي تستقبل روادها القدامى حيث يستعيدون فيها ذكرياتهم عن برجا القرية القديمة وعن معارك ساحة العين الانتخابية ومهرجانات كمال جنبلاط وغيرها… ورغم أفول دور “ساحة العين” وانتقال النشاط البرجاوي إلى مواقع أخرى إلاّ أننا لا نشعر أننا في برجا إلاّ إذا مررنا بساحة العين؛ وهذا ما قد يفسّر ازدحام السير فيها رغم وجود عناصر الشرطة البلدية.
والآن وبعد أن استعرضنا بشكل موجز الظاهرات والعلاقات التي تشكل العناصر القروية في بنية “العقل البرجاوي” ننتقل إلى محاولة رصد هذا العقل في ظهوره المديني، حيث أننا ندّعي بوجود ظاهرات برجاوية تدل على إمكان تغلغل علاقات المدينة داخل نسيج هذا العقل. ومن أهم هذه الظاهرات:
1. ظاهرة العدد، حيث نلاحظ أن عدد سكان برجا الذي يفوق العشرين ألفاً هو أكبر من ان يُنسب إلى قرية.
2. ظاهرة الفكر التجاري والصناعي التي بدأت تبرز في برجا منذ بدايات القرن العشرين مع محاولات أبناء برجا إقامة صناعة النسيج والتي بواسطتها حاولوا أن يمارسوا استقلالاً اقتصادياً يتمثل بالصناعة وبالتجارة حيث عملوا على تصدير انتاجهم وبدأوا بتأسيس فكرهم التجاري منذ ذلك الحين. ولقد أشار المستشرق الفرنسي كريستيان أوشون إلى هذه الظاهرة حين زار برجا في الستينات من القرن الماضي معتبراً أن البرجاوي يعيش كأبناء المدينة باعتماده على انتاجه وعلى الدورة الاقتصادية التي كان يؤسسها في ذلك الوقت. ولا شك في أن ظاهرة العمل التجاري ما زالت ماثلة في حياة البرجاوي وتشكل مصدراً مهماً من مصادر عيشه.
3. ظاهرة التفاعل مع التقنيات الحديثة، حيث نشهد إقبالاً شديداً من أبناء برجا على كل ما هو حديث من تقنيات مثل الكمبيوتر والإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال، بشكل يدل على انفتاحهم على العالم الجديد واستعدادهم لتمثّل العلاقات الكونية الجديدة.
4. ظاهرة التفاعل مع صيدا وبيروت تبرز بحكم موقعنا الجغرافي القريب جداً من هاتين المدينتين إذ أننا نقيم معهما علاقات على جميع المستويات؛ وهذا ما يؤدي بالطبع إلى تفاعل الشخصية البرجاوية مع علاقات المدينة بحيث تصبح قادرة على تمثّلها بسهولة وبتركيز أكبر.
5. ظاهرة الثقافة والكفاءة العلمية تشكل عنصراً أساسياً في عملية انفتاح “العقل البرجاوي” على العلاقات المعقدة التي تحكم مجتمع المدينة. ولا شك في أن أبناء برجا يتجهون منذ الخمسينات أكثر فأكثر نحو تحصيل العلم وتميزوا بنشاطهم الثقافي والاجتماعي مما جعلهم على تماس مع القضايا الفكرية والتربوية التي تهم المجتمع بكل علاقاته المعقدة.
6. ظاهرة النشاط السياسي برزت في برجا بقوة نتيجة لقابلية “العقل البرجاوي” لإقامة علاقات ليس فقط على مستوى المدينة بل حتى على المستويات الوطنية والقومية والعالمية. ولا يخفى على أحد أن برجا شكلت في تاريخها ساحة لتفاعل ولصراع العقائد السياسية المختلفة وهذا ما جعلها تشكل إطاراً لعلاقات أعقد بكثير من علاقات قروية بسيطة.
7. ظاهرة الوظيفة العامة تلعب دوراً أيضاً في التدليل على العلاقات الواسعة التي ينسجها “العقل البرجاوي” حيث نجد أن أبناء برجا بانتشارهم في الوظائف العامة للدولة وبالتزامهم بأنظمتها وبقوانينها فإنهم بذلك يتجاوزون موضوعياً العلاقات القروية البسيطة والضيقة إلى علاقات أشمل وأكثر تعقيداً تتعلق بالدولة المدنية وبالمؤسسات العامة.
8. ظاهرة تهافت وانحسار العلاقة العائلية حيث نشهد في برجا معاييراً للعلاقة بين الناس أقوى من المعيار العائلي؛ وظهر ذلك واضحاً في الانتخابات البلدية. ولا شك في ان تجاوز العلاقات العائلية إلى علاقات عملية وحزبية وسياسية واجتماعية يشكل علامة واضحة على وعي “العقل البرجاوي” للشروط الجديدة التي تحكم العلاقات في المجتمعات المعاصرة والمتمدنة.
9. ظاهرة اللامبالاة تجاه الآخر، والتي يتميز بها أبناء المدن، بدأت تظهر ولو بشكل خجول في المجتمع البرجاوي؛ وهي تأتي كرد فعل متمرد على ظاهرة الانكشاف للآخر التي تميز مجتمع القرية الضيق. فلا شك في أن معظم الناس لا يطيقون تدخّل الآخرين في شؤونهم الشخصية لذلك هم يفضلون أيضاً نهج اللامبالاة والتجاهل تجاه الآخرين.
تلك هي أهم العناصر التي تجعلنا نعتقد بتغلغل علاقات المدينة في بنية “العقل البرجاوي”.
بعد كل ذلك، نعود إلى مفارقتنا فنقول بأنه نتيجة لهذا الاستعراض للظاهرات والعلاقات التي تظهر في مجال ممارسة “العقل البرجاوي” نستطيع القول بأن هذا العقل بما له من مميزات وإمكانيات واستعدادات هو قادر على التكيف مع الظروف بما يمكّنه من استيعاب المفارقات وتمثّلها؛ وهذا ما شهدناه من خلال ظهور “العقل البرجاوي” كإطار او كبنية تتفاعل فيها علاقات متناقضة كعلاقات المدينة والقرية لتقدم لنا مشهد القروي المتمدن.