العقل البرجاوي : الثابت المتجوّل
كتب د . حسن منصور الحاج : في مقالين سابقين كنت قد تحدثت عن “عقل برجاوي” محدداً سماته الأساسية ومعتبراً أنه قائم على بعض المفارقات التي تعطيه بعض الأصالة والتميز. وفي المقال السابق تحدثت عن البساطة المركبة كمفارقة من مفارقات هذا العقل. أما موضوع المقال الحالي فإنه يأتي في سياق مشروع وعينا لذاتنا في عملية بناء وتوثيق تراثنا. على ذلك، فإن الغاية من هذا المقال هي متابعة ما بدأناه سابقاً في رصد ظاهرات أساسية يتحرك في حقلها الوعي البرجاوي والتي تشكل بتفاعلها وبتقاطعها نظاماً من العلاقات يحدد سلوكنا واتجاهات وعينا، سميناه بالعقل البرجاوي.
إذن، سنحاول الآن رصد حالة من حالات تلازم وتقاطع الظاهرات والتي بدورها تشكل ظاهرة مفارقة داخل العقل البرجاوي ألا وهي مفارقة التلازم والتقاطع ما بين ظاهرتي الثبات والتجوّل حيث أننا إذا ألقينا نظرة على تاريخ برجا حتى يومنا هذا نجد ذلك التناغم والتكامل والصراع في شخصية الإنسان البرجاوي ما بين جانبه المتجوّل وجانبه الثابت المروّضين والمؤطَّرين في عقلانية يمكننا الادعاء بأنها خاصة بالعقل البرجاوي الثابت المتجوّل.
ولكن ما المقصود بظاهرتي الثبات والتجوّل؟ في الواقع، إن هاتين الظاهرتين تجسدان مفهومين أساسيين من مفاهيم الميتافيزيقا والعلم بشكل عام، إذ أن الثبات هو شكل من أشكال السكون الجوهري التي تُحمَل على معنى الوجود؛ أما التجوّل فهو شكل من أشكال الحركة التي تُحمَل أيضاً على معنى الوجود.ولكي لا نطيل الحديث عن المفاهيم الميتافيزيقية سندخل مباشرة في تجليات هاتين الظاهرتين في السلوك البرجاوي.
فمن أهم تجليات الثبات عند البرجاوي تعلقه بأرضه وصموده أمام إغراءات المدينة أولاً وأمام الهجرة الدائمة ثانياً. بالفعل، ورغم الموقع الجغرافي لبرجا بين مدينتي صيدا وبيروت، ورغم العزلة التجارية الخانقة وفقدان الدورة الاقتصادية وغياب الحركة الصناعية والنشاط السياحي واختفاء المواسم الزراعية فإن البرجاوي بقي في بلدته التي يزداد عدد سكانها سنة بعد سنة حتى أصبحت عددياً وليس بنيوياً على شكل المدن. ونحن إذا أقمنا مقارنة بين برجا والبلدات اللبنانية نجد أن نسبة قليلة جداً من أبناء برجا قد انتقلت إلى المدينة بيروت ونسبة أقل بكثير ممن هاجروا إلى دنيا الاغتراب. وبدون شك، قد يكون هناك عوامل مختلفة إضافية ساهمت في هذا الواقع ولكن يبقى أن هناك ظاهرة أساسية وجب التوقف عندها.
ومن العوامل المساعدة في تجليات ظاهرة الثبات البرجاوي يمكن ذكر العلاقات الطيبة أجواء التعاطف والبساطة والعفوية التي تسود ما بين عائلات برجا بالإضافة إلى فضيلة التسامح والغفران التي تنتصر حتى في أصعب الظروف. وفي مجال خصوصيات الثبات لا بد من ذكر اللهجة البرجاوية المميزة الثابتة في كل برجاوي والتي يفتخر بها أبناء برجا ( خصوصاً أولئك الذين انتقدوا بعض ما جاء في مقالتنا الأولى حول اللهجة البرجاوية وضرورة تكييفها مع اللهجة اللبنانية السائدة). ومن علامات الثبات الأساسية في العقل البرجاوي نؤكد على الثقافة والتقاليد العربية- الإسلامية التي تربى البرجاوي في كنفها وثبت عليها رغم تعدد الانتماءات السياسية والإيديولوجية في برجا؛ وهذا ما يؤكد ثبات القيم الديمقراطية واحترام الآخر عبر تجارب عديدة ظهرت في مسيرة تطور هذه البلدة-المدينة.
أما فيما يتعلق بظاهرة التجوّل ،التي ساهمت أيضاً في تشكيل بنية العقل البرجاوي، فإن تجلياتها تظهر في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية.
فعلى الصعيد الاقتصادي حيث وجد البرجاوي نفسه في بلدة محصورة وبدون موارد اقتصادية، خرج هذا المكافح من أجل الرزق حاملاً بضاعته الحريرية التي كان من رواد إنتاجها في بداية القرن العشرين، وراح يجول بها في البلدان المجاورة عابراً المناطق اللبنانية وصولاً إلى سوريا والأردن وفلسطين والعراق. ولا شك في أن الباعة المتجولين البراجنة لم يتركوا زاوية في هذه البلدان إلاّ وقصدوها وتركوا فيها أثراً من حكاياتهم ومعاناتهم وكفاحهم حتى غدت نوادرهم وقصصهم تمثل موضوعاً لبعض رواد الأدب الشعبي في تلك البلدان (قصة الأديب الفلسطيني توفيق زياد المنشورة في العدد السابق لنشرة برجا التراث حول الباعة المتجولين البراجنة). وبدون شك، إن هذا البرجاوي المتجوّل هو الذي صنع برجا بعرقه ودمه وبمبادرته. نعم، إن المبادرة والجرأة والمخاطرة والخبرة هي من مزايا البائع المتجوّل الذي خرج وتجول وأتى بالرزق لعائلته الصامدة بانتظاره في أرضها وبين جنبات مجتمعها.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن أبناء برجا الذين تعلموا وحصلوا على الشهادات العلمية لم يجدوا أمامهم سوى وظيفة الدولة وخاصة وظيفة المدرس. وكان المدرسون في السابق يُعيَّنون في المناطق النائية. فراح أبناء برجا المعينون كمدرسين يتجولون في المناطق الريفية البعيدة يعلمون في مدارسها البدائية لسنوات كانوا خلالها يلتقون بالتأكيد بالباعة المتجولين البراجنة في تلك القرى. أما الذين لم يحالفهم الحظ في الحصول على الشهادات العلمية فقد التحقوا بالجيش أو بالدرك وراحوا هم أيضاً يجولون بين المناطق والقرى والمخافر والثكنات العسكرية يقضون الليالي الصعبة ويتعبون ويشقون لبناء مستقبل أفضل لأُسرهم الصامدة في برجا. أما الذين لم يحالفهم الحظ في الوظائف الرسمية فقد هاجروا إلى دول الخليج العربي وعانوا من شقاء الغربة وقساوة الظروف فتجولوا من منطقة إلى أخرى ومن عمل إلى آخر حتى وفروا بعض المستلزمات المادية لأسرهم الباقية في البلدة.
وفي مرحلة ذهبية من عمر برجا الحديث، وبعد تعب الأهل وشقائهم ومع حصول الأبناء على الشهادات العلمية وبالتلازم مع نهوض العمل الاجتماعي والسياسي في برجا أواخر الستينات ومطلع السبعينات من القرن العشرين، أخذت ظاهرة التجول البرجاوي بعداً جديداً. فلقد راح طلاب برجا يطلبون العلم في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية بعد حصولهم على منح التخصص في الطب والهندسة والعلوم النظرية وعادوا إلى بلدتهم أطباء ومهندسين يعملون في خدمة مجتمعهم. وفي الثمانينات حصلت برجا على فرصة خير أخرى للتجول في العالم الغربي هذه المرة حيث سافر عدد كبير من أبنائها إلى فرنسا وانكلترا وأميركا للتخصص في جميع ميادين العلم وعادوا إلى بلدتهم ليساهموا في إنمائها.
وبما أننا ننطلق من دينامية التجول فلا بد لنا من الإشارة أخيراً إلى الدينامية الفكرية والسياسية التي تميز بها العقل البرجاوي. إن التجول هنا يعني الغوص والتعمق والإقدام في مختلف العقائد الفكرية والسياسية، ويعني أيضاً الحوار والتفاعل والتجوال في فكر الآخر. وبدون شك، إن تاريخ برجا السياسي يشهد على هذه الدينامية وعلى مساحات الانفتاح والتفاعل التي برزت في التجارب المختلفة التي شهدتها الحركة السياسية في برجا عبر مراحل مختلفة.
والآن، وبعد أن استعرضنا تجليات الثبات والتجوّل في العقل البرجاوي، ألا يحق لنا التساؤل حول هذه المفارقة؟ بالفعل، إن العقل البرجاوي استطاع أن يكون ثابتاً ومتجوّلاً في نفس الوقت: فهو ثابت بقدر ما هو متجول وهو متجول بقدر ما هو ثابت؛ إنه ثابت لأنه متجول وهو متجول لأنه ثابت؛ فالبرجاوي يتجول من أجل الرزق ومن أجل العلم ومن أجل الحركة والتطور ولكنه لم يغادر ولم يهجر برجا حيث أرضه وثقافته ووجدانه. إنه يذهب دائماً ويعود دوماً كالعوْد الأبدي للكينونة الصائرة.
أخيراً، قد يقال لي: أين أنتم من إنسان نيتشه الأعلى ومن عوْده الأبدي؟ وأنا أقول لمن قد يتساءل: ألا يحق لنا أن نحلم بتجاوز وعينا في سبيل تراث أفضل؟