الدكتور أحمد أبو حاقة يصور ذكرياته في برجا
في العام 1936 م ، لم يكن في قريتي ” بعاصير ” مدرسة . فسعى أهل الخير لدى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت ، فخصّت بعاصير بواحدة من مدارسها التي كانت تعرف آنذاك بمدارس فقراء المسلمين ، وفتحت لنا مدرسة بغرفة واحدة ، وأرسلت إلينا شيخاً من مشايخها ليعلمنا مبادىء القراءة والكتابة والحساب ، واللغة العربية ، والدين الإسلامي ، والقرآن الكريم ، وما يزيل عنا شبح الأمية البغيض .
وكان الشيخ صالح سلامة ، الآتي من شرقي الأردن رجلاً في شرخ شبابه ، نبيهاً متنوّراً حيّ الضمير ، مؤمناً برسالته التربوية ، مخلصاً لها – فراح يعلمنا بنشاط ومحبة ، ولم يقتصر تعليمه علينا نحن الصغار ، بل كان يعلّم آباءنا أيضاً أصول الدين ، لقد كانت أيامنا جميلة .
وفي العام 1941 م ، في ظل الحرب العالمية الثانية ، وجد الشيخ صالح صعوبة في الاستمرار بعيشه في لبنان ، بعد أن تزوّج وأنجب أطفالاً فودّع القرية وأهلها وعاد إلى بلاده .
أمضيت من بعده سنتين : إحداهما في دراسة متقطعة ، والثانية في المرض ، بسبب حادث أليم ، هو تدهور سيارة بمجموعة من أهل القرية كنتُ بينهم .
وفي تشرين الأول من العام 1943 م ، انتسبت إلى مدرسة ” برجا ” الرسمية لمتابعة دراستي ، وكانت مدرسة كبيرة نسبياً ، ومنظمة ، تضم كل الصفوف الابتدائية بشيء من الكثافة ، وتطبق في التدريس مناهج وزارة التربية الوطنية ، فتخرج في كل عام مجموعة من التلاميذ يحملون الشهادة الابتدائية . كان الشيخ صالح سلامة قد زوّدني بزاد غير قليل من المعرفة ولا سيما في اللغة العربية ، والرياضيات ، والقرآن الكريم .
لكنني لم أكن أعرف لغة أجنبية وكان في صلب مناهج التدريس الرسمية تعليم اللغة الفرنسية منذ الابتدائية الأولى ، فوقعت في مشكلة ، وبدأت دراسة اللغة الفرنسية من الصفر . وقد لقيت كثيراً من المساعدة والعناية والتشجيع من أساتذتي الكرام رحمهم الله : جميل الخطيب ، وبهيج الخطيب ، والمدير عبد الغفار الحجار فاستطعت أن أحصل في اللغة الفرنسية ما خولني النجاح في الشهادة الابتدائية ( السرتفيكا كما كانوا يدعونها آنذاك ) .
أمضيت في مدرسة برجا الرسمية سنتين دراسيتين ، كانتا أجمل أيام حياتي ، تعرفت في أثنائهما على مجموعة من الأصدقاء لا أزال أحفظ لهم الودّ والاحترام وجميل الذكريات ، وهم ينتظمون عائلات برجا كلها تقريباً ، أو أكثرها ، فضلاً عن تلاميذ كانوا من جوار بلدة برجا ، من عين الأسد ، والمرج ، والشمّيس ، وبالطبع من قريتي برجا وبعاصير .
لكن ذكرياتي في برجا لا تقتصر على ما يخص الدراسة ، فلقد كنت أعرف برجا قبل انتسابي إلى مدرستها . وكنت أعرف كثيراً من أهلها ، سواء عن طريق والدي ، أو عن طريق الأقارب ، أو عن طريق الاختلاط بين الناس ، كما كنت أعرف أنها تشبه بالنسبة إلي قرية بعاصير بالذات .
فما أكثر ما كنّا نجد حاجاتنا في برجا متوافرة . وكنا نعتمد عليها كل الاعتماد . فيها الخياط ، والحلاق ، والبنّاء والطبيب ، والتاجر ، والبقال ، واللحام ، والطحان ، والفران ، والسمكري ، وبائع الخضار والفواكه والحبوب والخرضوات والتبغ والتنباك ، والصيدلاني ، والحائك ، وبائع الثياب والأقمشة والحلوى ، والنجار ، والحداد ، وصانع الأحذية ، والإسكافي ، والكوّى ، والرّتا ، والعامل والفلاح ، والمكاري ، وسائق البوسطة ، وسيارة النقل ، وكلهم كانوا يعملون بكد ونشاط وإتقان .
وكنت نتعامل معهم جميعاً بنسب متفاوتة لتوفير ما نحتاج إليه ، وطبيعي أن يحصل بين برجا وجوارها وبخاصة قرية بعاصير تبادل المنتجات والسلع ، فنشتري من برجا ما نحتاج إليه ، وتشتري برجا منا ما تجده عندنا من سلع وحاجات .
أضف إلى ذلك ميزة تمتاز بها برجا ، وهي كثرة الأصوات الجميلة فيها ، وميل أهلها إلى الطرب والغناء والعيش المرفه .
ومن جميل الذكريات في هذا المجال أنني حضرت في صباي حفلة زجلية في برجا كان فيها شحرور الوادي وفرقته . وقد غنّى آنذاك صبي برجاوي في العاشرة من عمره أغنية لمحمد عبد الوهاب ، وهي أغنية ” الوردة البيضاء ” فأجاد فيها إجادة مدهشة ، جعلت شحرور الوادي يقول له ، إعجاباً بصوته وأدائه :
يا مفقس من البيضة .. سمّعني صوتك أيضاً
من مصر عبد الوهاب .. بيهديك الوردة البيضا
ويبدو أن هذه الظاهرة الفنية لا تزال مستمرة في النمو ، إلى درجة أنني قرأت منذ أيام قليلة في جريدة السفير خبراً مفاده أن في الكونسرفاتور الوطني اليوم خمسين طالباً وطالبة من برجا يتابعون الدراسة في اختصاصات موسيقية متنوعة ، وليس هذا بالشيء القليل .
ومما يرتبط بهذه الظاهرة الفنية أيضاً جوانب فلكلورية كانت تتجلّى في الحفلات والأعياد والأعراس والمناسبات المختلفة الاجتماعية والدينية والسياسية وسواها ، وفي العادات والتقاليد والأزياء وطرق العيش ، والمآكل والملابس والمقتنيات وأثاث المنازل وما إلى ذلك .
ولست أنسى ساحة العين ، والمقاهي المنتشرة على الجانبين ، وروّادها من أهالي البلدة وأهل الجوار ، وبخاصة من قرية بعاصير ، الذين كانوا يجدون أكثر ما يحتاجون إليه في برجا ، كما يجدون تسليتهم الممتعة ، فيقصدون مقاهيها ، ويلتقون بأصدقائهم ، فيشربون الشاي والقهوة والمرطبات ، ويدخنون النرجيلة ويتداولون أطراف الأحاديث والحكايات والأخبار ، والنكات الفكاهية ، ويلعبون بورق : الشدة ” الباصرة ، والطرنيب ، والـ 14 ، والليخا ، كما يلعبون بطاولة الزهر ، فتسمع طرقاتها تنبعث في المقاهي من كل مكان .
والجدير بالذكر ، أن الألفة والمحبة والاحترام المتبادل هي التي كانت تسود العلاقات بين الناس ولا سيما بين البرجاويين والغرباء ، فقد يتشاجر برجاوي مع برجاوي ، ولكنني لا أذكر شجاراً وقع في ساحة العين مثلاً بين برجاوي وغريب ، والبرجاوي طيب القلب عموماً ، لا يحمل في صدره عداوات ولا غلاً ولا حقداً . فإذا اختلف مع إنسان فإنه ينفعل في ساعته ، ولكنه سرعان ما يهدأ ويتسامح وكأن شيئاً لم يكن . فهذه الظاهرة من دماثة الخلق تكاد تعمّ البرجاويين جميعاً .. وقد يكون هذا سبباً في أن برجا أيام كنتُ تلميذاً في مدرستها لم تكن تحتوي على مخفر .
مع أن عدد سكانها كان كبيراً نسبياً ، وكانت الحياة فيها على جانب من الصخب ، وقد جاء المخفر إليها بعد سنوات وهو ليس لها وحدها ، بل للجوار كذلك .
وإذا كنت قد درست في برجا بمدرسة الصبيان بين 1943 – 1945 فلقد كان فيها أيضاً مدرسة للبنات . في حين أن الكثرة الغالبة من نساء أكثر المناطق اللبنانية آنذاك كنّ أميّات لا يعرفن القراءة والكتابة . ولا ريب في أن وجود مدرسة للبنات يسهم كثيراً في النهضة التربوية والاجتماعية والثقافية . لكن البنات مع الأسف كنّ يتوقفن عند حدود الدراسة الابتدائية . وقلما تجاوزن ذلك إلى المستوى المتوسط أو الثانوي أو الجامعي .
وليس يمكنني أن أتحدث عن نهضة نسائية في برجا آنذاك ، في الوقت الذي أستطيع أن أتحدث عن بوادر وعي ونهضة ثقافية واجتماعية بدأت تطل برأسها قبيل نهاية النصف الأول من القرن العشرين – فعلى نحو ما تخرجت أنا في مدرسة برجا الرسمية الابتدائية ، ونزلت إلى مدينة بيروت لمتابعة فيها دراستي ، كذلك كان المتخرجون في مدرسة برجا ينتقلون إما إلى صيدا ، وإما إلى بيروت لمتابعة دراستهم فمنهم من يكتفي بالشهادة المتوسطة ( البريفيه ) ، ومنهم من يتجاوزها إلى البكالوريا ، فيحصل بواسطتها على وظيفة بارزة نسبياً ، أو يدخل الجامعة ، فيتخصص في الطب أو الهندسة أو المحاماة ، أو غير ذلك .
ومما يلفت النظر أيضاً في برجا الأربعينيات ، أنها كانت كثيفة السكان ضمن حدود ضيقة لا تتجاوز الأحياء القديمة في البلدة ، ولكنها كانت توحي بأن تطوراً عمرانياً لا بد من أن يحصل ، وبأن الحال لا يمكن أن تستمر على ما كانت عليه .
وقد بدأ الخروج إلى أطراف البلدة منذ ذلك الحين ، لكنه كان بطيئاً ومحدوداً ، ربما بسبب قلة ذات اليد ، حتى إذا مرت سنوات ، ودخلنا في النصف الثاني من القرن العشرين أخذت هذه الظاهرة تتزايد ، وأخذت مساكن برجا تنمو في كل اتجاه : شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، حتى أصبح اتساعها يتوغل في خراجات القرى المجاورة ، وما عاد يفصل بينها وبين هذه القرى سوى مسافات قليلة . وطبيعي أن يكون ذلك بارزاً بالنسبة إلى قرية بعاصير ، فإن منازل برجا قد اتصلت بمنازل بعاصير ، وتداخلت حياة البلدتين أكثر فأكثر اقتصادياً واجتماعياً وعمرانياً وثقافياً .
والذي حدث في العمران رافقه بشكل طبيعي ما اقتضاه من تطور في جميع مرافق الحياة من غير أن يقضي على الثوابت في التراث البرجاوي والبعاصيري على السواء . فالتراث الشعبي لم يتغير ، والعادات والتقاليد والأخلاق لم تتغير كذلك ، وإنما تغيرت بعض الوسائل بتغير وجوه الحياة ، فالذي كان يصنع باليد دخلت في صناعته الكهرباء ، والذي كانت تنقله الدواب أصبحت السيارات وسيلة نقله ، والخيمة التي كانت تصنع من قشّ أصبحت تصنع من حديد وأنسجة مناسبة . والبيت الذي كان الطين عنصراً أساسياً في بنائه ، ولا سيما السقف والسطح والجدارن والأرض ، وقد أصبح اليوم من إسمنت وحديد وبلاط وبورسلان ورخام . ناهيك بارتفاع الطبقات والتفنن في الديكور والشرفات سواء من الداخل أو من الخارج .
وعلى ذكر وسائل النقل فإن المرحلة التي تحدثنا عنها وهي أواسط الأربعينيات لم تعرف طرقاً مسهلة في المواصلات كما هي الحال اليوم . فلقد كانت هنالك طريق معبدة تصل الجية ببرجا ، أي تصل برجا بالطريق الساحلية من بيروت وصيدا ، ويتفرع من طريق برجا – الجية طريق إلى بعاصير ، شقت وعبّدت في أول الأربعينيات ولم تكن السيارات موفورة آنذاك فنادراً جداً ما تجد برجاوياً أو بعاصيرياً أو أي إنسان آخر من إقليم الخروب وغير إقليم الخروب يملك سيارة خصوصية . ولم يحدث ذلك إلا في بداية السبعينيات . أما قبل ذلك فلم يكن في برجا إلا بوسطة واحدة عمومية وسيارتان صغيرتان من نوع ” فورد ” ( أبو دعسة ) .
وهذه السيارات الثلاث هي وسائل النقل بين برجا وبيروت وصيدا لمجموعة من قرى المنطقة . وفيما يخص التنقل بين برجا وبعاصير إلى ساقية برجا ، ثم تصعد من الساقية إلى ساحة العين ومنها إلى سائر برجا ومن أراد أن يسافر من بعاصير إلى بيروت مثلاً ، كان عليه أن ينزل إلى برجا سيراً على قدميه ، أو على ظهر دابة من نوع البغال أو الحمير ، ومن ساحة العين تنطلق به البوسطة أو سيارة ( فورد أبو دعسة ) إلى بيروت ، وفي العودة كذلك .
وكانت البضائع التي تنقل بين برجا وبعاصير تنقل على ظهور البغال والحمير المزينة بالأجراس والشراريب المختلفة الألوان ، وكان المكاري يتباهى بدوابه إذا كانت قوية وحسنة الشكل . وكان الناس سعداء حينذاك رغم قسوة الحياة والمعاناة الشديدة والشظف . وقد استمر ذلك حتى مطلع الخمسينيات ، بعد أن عبّدت طريق بعاصير ، واشترى بعض أهلها بوسطة أو سيارات نقل صغيرة كانت تعمل على طريق بعاصير – بيروت ، وفي هذه المرحلة أيضاً ، بدأ أهالي بعاصير يفتحون محلات تجارية ، وبنيت في بعاصير مدرسة رسمية تكميلية حديثة على شيء من الإتساع والتنظيم . وقد عهدت إدارتها في أول الأمر ، والتعليم فيها إلى أساتذة من برجا لكن المتخرجين في مدرسة بعاصير أصبحوا يكملون دراستهم في برجا بعد أن فتحت فيها مدرسة ثانوية .
وإذا كان ذلك قد سدّ بعض حاجات بعاصير التي كانت تؤمنها لها برجا فإنه لم يقطع العلاقات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية بين الجارتين فما تزال هذه العلاقات وثيقة حتى اليوم وهي تزداد اتساعاً وتوطداً بسبب التزاوج الذي يحصل بين أهالي البلدتين ، وبسبب التطور الذي تفرضه الحياة .
هذه صورة عن ذكرياتي في برجا ، وعن العلاقة القائمة بين برجا وبعاصير التي بدأت منذ إنشائهما في زمن موغل في البعد ، ولا تزال مستمرة حتى اليوم ، وستبقى كذلك تتطور وتتنوع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وإنسانياً وحضارياً بصورة عامة . المصدر : برجا التراث 2002 .