عندما تستيقظ ذكريات عيشه ديك
تتبدى لنا صور الحائكين البرجاويين ، أولئك المباركين في رزقهم ، المؤنسين في حكاياتهم ، قصصهم سلسلة خزائنها كنوز من تراثنا . وقبل أن أقصّ عليكم من أنبائهم يهتف بي هاتف : أنِ أذكر فضلها ، فقد ألقت إليك بخبايا نفسها ، ولم تترك اسما ً في الحياكة إلا ّ ودلـّت عليه وحدثتك به . ألم تنبسط إليك والثمانون قد ألحت عليها فما ضنت بخبر ، ولا تأففت من مقال . لولاها لطويت صحائف كثيرة ، ولغابت أسماء وعناوين وشخوص وذكريات . أسفي عليها ، والحياة مسرّات وأحزان ، كيف كان حديثها يتدفق حبا ً وبراعة وتمكينا ً . يستلذه السامع ، ويستنبط منه الباحث ، ويتمتع به القارىء . ولما أخذ المرض منها كل مأخذ ، وأشرفت أيامها على النفاد ، شق عليها الكلام ، فأقفرت المجالس بسكوتها . عندها همست امرأة في أذن أختها : ” ضيعانو البلبل يسكت ” . وكان أن استردّ الله وديعته ، وخلفت لنا عائشة محمد الشيخ سليم يحيى ( 1920 – 2001 ) ( زوجة عبدو حيدر الحاج – المعروفة بعيشة ديك ) أحاديث جلـّها في مهنة الحياكة ، وبها وجدنا ضالتنا التي كنا ننشدها عن الحائكين ودفائنهم وجمال أيامهم وحلاوة سمرهم .
عائشة محمد يحيى ساكنة حارة العين ، العارفة بدقائق الحياة اليومية فيها وتفاصيلها ، تروي عن أهالي حارتها الحكايات والنوادر فيطيب لها الحديث ، وتستيقظ فيها الذكريات . حياتها تعب كلها ، ومع ذلك تقول : ” سقى الله تلك الأيام ” . مسرح طفولتها في العشرينيات دروب حارة العين وأزقتها . مغرمة بالدنيا ، أيامها مملوءة عملا ً طوال سنين عمرها .
في بيت عاش على منتوج الحياكة ترعرعت ، وبين أنواله كانت تتنقل : ” جدي الشيخ سليم كان قد حالو ” حائك من أبرز الحياكين ، خبير بالنول وصناعته ، علـّم الكثير من شباب برجا والجوار الصنعة ، وأقام شهرا ً في قرية كفرنبرخ لهذه الغاية ، وكان صاحب رأي ومشورة .
كان الشيخ سليم حسين يحيى ( 1857 – 1940 ) يحوك الأحزمة للـّحامين والعمال والقمصان والشراشف والمناشف ، بينما عائشة تقوم بالتسدية له مع نديمة الشيخ كامل الخطيب ، تساعدان زوجته عائشة حسن عنوز ( 1857 – 1935 ) المنهمكة في غير عمل ، إذ كانت قابلة مشهورة في برجا ، أتقنت مهنتها وبرعت فيها وورثتها من بعدها لابنتها فهوم ( 1892 – 1972 ) ، بينما هي في التسدية موضع انتقاد زوجها كلما تقطعت خيطانه ، فيستفزها بكلامه فتدعو على بيروت بالحريق ، فبيروت هي السبب ، حيث منها تستورد خيوط الغزل إلى برجا .
جعبة ذاكرة عائشة يحيى حافلة بطيوب الذكريات ، لا تكل ولا تمل من سردها ، فتقول في سرّك : لقد استيقظ فيها الماضي البعيد ، وهب صداه في نفسها . تعود بك إلى الثلاثينيات حين كان جدها يملك مصبغة للغزل فيها خمس خواب ، وهي جرار ضخمة ، كل واحدة منها تحتها موقد لغلي الصبغة حتى تشتدّ .
والدها محمد ( 1887 – 1963 ) كان له نول في منزله ( عقار 2271 ) حاك عليه القنابيز من الغزل الهندي ، يحملها الباعة البرجاويون إلى ديار فلسطين ، كما حاك الشراشف والمناشف على أنواعها ، فيما عائشة تحوك على نولها قمصان الرجال والتنانير بمعدل خمسة قمصان في اليوم ، كما تقوم بتسدية مدة يوميا ً بمقدار خمسة عشر شرشفا ً لمحمد عبد الرحمن الشمعة ( أبي شفيق ) مقابل ربع ليرة لبنانية ، فيما شقيقاتها الثلاث سليمة وفاطمة وكريمة يسدين لها ولوالدهن على تفاوت بينهن في الجهد والعمل ، فيثور الأب ويشكو أمره إلى الشاعر حسن أمين الجنون الذي يسارع إلى القول :
سلوم بيّا ما قدر ليْها بضل قايم صيحتو عليها
كل ما بيقلها بدنا مواسير بتدعي على تكسير إيديها
ثم يقول له مواسيا ً :
في عندي بنتي فطوم أقطع من بنتك سلوم
نقلتلها بدي مواسير بتطلع عاراس المطعوم
ومرة لمّا مرضت عائشة جاءها أبوها يعرض عليها الطعام : آتيك باللحم ، بالسودا ، بالبيض ؟ وهي تمانع . وعندما يحدّث أختها سلوم ” يطلع خلقها ” ، فأبان حسن الجنون بقوله ما خفي من الأمر :
سلوم محمد عيشه شايف أطباعا وحيشه
بدها لحم وبدها بيض غارت من أختها عيشه
وأخذت ذاكرة عائشة تغوص في حنايا الماضي ، تحفظ صوره ، وتسبر أغواره ، وترصد أطوار حوادث الحارة والضيعة ، وتتغلغل على طول الأيام ، تعد لك الحياكين في برجا كلها . يتبع . من كتاب الحياكة البرجاوية للشيخ جمال بشاشة ( 1 ) .
الله يرحم عيشة وسلوم جيل الهمم العالية ليسمع جيل اليوم اذا حياكة خمس قمصان يوميا وسلوم بيّا ما قدر ليْها بضل قايم صيحتو عليها