من جراب الأمس

المنجد نصوح زين : العِهْن المنفوش والقطن المندوف

كتب الأستاذ أحمد سليم عزام : يكاد لا يخلو بيت من البيوت القديمة في برجا ، من ( يوكٍ ) توضع فيه الفرش واللحف والمساند والمخدات . وكلما شاهدت هذا ( اليوك ) في غرفتي العتيقة ، تعاودني الذكريات ، وينتابني الحنين إلى تلك الأيام الخوالي ، التي كان اليوك أثناءها من القطع الأساسية الهامة في فرش البيت وجهاز العريس ….. وكلما اتكأت على مسند أو تدثرت بلحاف ، أتذكر ذلك الحرفي البارع ، الذي أتقن صنعهما ، وتفنن في (شدهما) وتزيينهما . إنه (نصوح) المنجد الماهر ، الذي اشتهر في برجا وجوارها في النصف الأول من القرن الماضي ، وعُرف باسم ناصوح . والده الشيخ يوسف زين ، مقدّم الطريقة الشاذلية وشاعرها ، نظـّم الكثير من الأشعار الصوفية ، والأناشيد التي كانت تنشد في الأذكار والحضرات ، والمناسبات الدينية المختلفة . وللشيخ يوسف زين مآثر يُشكر عليها ، في مجال التعليم ونشر المعرفة في البلدة . وكان أحد المشايخ المشهورين ، الذين فتحوا الكتاتيب في برجا ، وفي تعليم الناشئة وتربية الأجيال ، التي مازالت تذكرهم بالخير وتثني عليهم ، إعترافا ً بفضلهم عليها .

وُلد ناصوح سنة 1892 م . تعلـّم القراءة والكتابة في كتاتيب الضيعة ، وعندما أيفع وشبّ ، شارك والده في أعمال الحياكة وبيع الأقمشة ، ثم تعلـّم مهنة التنجيد ، فحذقها ، وتفرّد بها ، حيث لم يكن في برجا ولا في المنطقة منجّد سواه . ومع ذلك فإن نصوح كان يعتبر مهنة التنجيد ، شؤما ً على صاحبها ، ولم يتعلم هذه المهنة ، غير شابّين اثنين هما : نجيب سكّر الذي اشتغل مع نصوح مدة قصيرة ، ولكن القدر لم يمهله ، فمات مقتولا ً في حادثة الجية ، وهو في ريعان الشباب عام  1940. وكذلك الشاب أحمد محمد يحيى ( أحمد عليا ) توفي عام 1939 ولم يتجاوز الثلاثين من عمره .

أحبّ نصوح مهنته وبرع فيها ، وأصبح موضع ثقة الناس ، يتهافتون عليه ، من الجية وبعاصير والبرجين وبرجا وغيرها ، نظرا ً لمهارته وإخلاصه وإتقان عمله . وكما كان نصوح فريدا ً في مهنته ، مميّزا ً بها ، كذلك كان فريدا ً في اسمه ، مميّزا ً به . فلم يكن أهالي برجا والجوار ، يعرفون أحدا ً سُمي بهذا الإسم ، ولعلّ والده الشيخ يوسف زين ، اختار له هذا الإسم تيمّنا ً بالشيخ نصوح الجابري ، من مشايخ الطريقة الشاذلية وشعرائها المشهورن في بلاد الشام .

وكلمة (نصوح) صيغة من صيغ المبالغة ، مشتقة من الفعل ” نـَصَحَ ” على وزن ” فـَعول ” مثل : رَؤوف وغـَفور وظلوم . ومعنى نصوح ، كثير النـُصح أو النصيحة .

كان نصوح دقيق الجسم ، جهوري الصوت ، حادّ النبرات ، حديد البصر ، لا يبتسم إلا نادرا ً ، ولا يرى إلا عبوسا ً مقطّب الحاجبين .

كان نصوح يرتدي الزيّ العربي البسيط ، القميص والسروال ، وأكثر ما كنت أشاهده حاسر الرأس ، إلا في أثناء انتقاله من قرية إلى قرية ، فإنه كان يتلثم بكوفية بيضاء .

لم يتخذ له محترفا ً أو مكانا ً خاصا ً يعمل فيه ، بل كان يُستدعى للعمل في البيوت ، وخاصة عندما يكون هناك شاب أو فتاة يتجهزان للزواج ، ومن خلال عمله هذا ، ترك نصوح بصماته في كل بيت من بيوت برجا والمنطقة .

من عادة نصوح ، أنه كان ينطلق من بيته ، بعد صلاة الفجر مباشرة ، ويتوجه إلى بيت أهل العريس أو العروس بناء على موعد سابق ، على ظهره كيس صغير ، فيه قسم من عدة الشغل ، وهي مدقة خشبية ، مسلـّة ، خيطان مصّيص ، إبر مختلفة ، خيطان بيضاء ، كشثبان ، وعلى كتفه القوس الذي يستعمله لندف القطن .

وقبل وصوله في الصباح الباكر ، تكون ربة البيت قد حضّرت له الشاي والحليب ، لأنه يتمنى على زبائنه أن يكون إبريق الشاي جاهزا ً ، وبقربه (الكبّاية) وعلبة السجاير ، يدخّن سيجارة بعد أخرى ، ويشرب من الشاي ما شاء له أن يشرب .

أما ترويقته المفضلة ، فهي الحليب أو أحد مشتقاته ، مثل اللبن واللبنة والجبنة .

وعند الغداء ، فإن نصوح يفضل المأكولات الخفيفة ، ولا بأس إذا كانت مطبوخة بالحليب مثل الرز بحليب والمهلبية ، والرشتة بحليب أو كباب الحيلة بحليب .

يبدأ العمل بخياطة أكياس المساند ، من الخيش الرقيق ، ويستعمل في ذلك المسلـّة ، وخيطان المصّيص ، وتعرف هذه الأكياس (بالقوالب) جمع قالب .

أما أكياس اللحف ، وهي من الكتان الأبيض والأطلس (قماش حريري سميك) سادة ، تختلف ألوانه ، منه الأزرق والأخضر والأصفر والزهر والبنفسجي (الليلكي) وغير ذلك من الألوان الزاهية . وهذه القوالب تكون جاهزة (ومدروزة) على ماكنة الخياطة . ومادة اللحاف هي القطن ، وهو أنواع ، أهمها القطن (الملكي) الذي يوصي نصوح زبائنه بشرائه عادة من محلات القطن والصوف في صيدا .

يضع نصوح القطن على الأرض ، ويأخذ القوس بيده اليسرى ، ويمسك المدقة بيده اليمنى ، ثم يضرب الوتر بالمدقة ضربات متتالية ، فيتطاير القطن كلما لامس الوتر . وكم تناثر على نغمات الأناشيد التي حفظها عن المنشدين من أبناء الطريقة الشاذلية ، والتي هي من نظم والده الشيخ يوسف زين . مثل الدّنّ دنّي ، ويا كوكب العصر ، وياذا العليّا ، ويا سيدي يا علي … وعندما يستخفه الطرب يأخذ بالإنشاد ويستمر فيه ، ما دام الوتر يدغدغ القطن ، فيخف ويتطاير في أنحاء الغرفة ، وعلى ثياب نصوح وشعره ، فيبدو أبيض ، وكأنه كان تحت عاصفة ثلجية .

وكم كنا نطرب لسماع هذا الإيقاع الجميل ، وذلك الإنشاد الشجيّ . وعندما ينتهي من ندف القطن ، يضع القوس والمدقة جانبا ً ، ثم يقف ويقرأ الآيات الكريمة : ” القارعة ، ما القارعة ، وما أدراك ما القارعة ، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، وتكون الجبال كالعهن المنفوش ” . ويلتفت إلينا ، ويسألنا مداعبا ً هل تعرفون ما هو العهن المنفوش ؟ فنقول : لا . يقول نصوح : إنه القطن المتطاير أمامكم (المندوف) فيزداد إعجابنا به ، ونظل طيلة النهار ، نلازمه ونراقب حركاته وسكناته ، ونستمع إلى إنشاده وأخباره .

وأما المساند ، جمع مسند ، وهو الوسادة ، فإن مادته الأساسية هي الشويل ، وهو أصول نبات الشعير وأوراقه ، يدرس ويؤخذ قبل أن ينعم ويتحول إلى تبن . تحشى به أكياس صغيرة من الخيش الرقيق ، ويوضع في جوانبها الأربعة ، شميلات من الشحام اليابس ، وهو نبات يشبه إلى حد ما نبات القمح ، له أصول (سُوق) دقيقة . يستعمل المنجد في صناعة المسند ، قضيب حديد قصير ، يدخل به الشحام والشويل ، ويضرب به المسند بعد أن يمتلىء ، ويدوسه بقدميه ، وبواسطة المسلـّة وخيطان المصيص ، (يضرب المسند مسامير) وهي قُطبِ تخترق المسند من وجهٍ إلى وجه ، فيتماسك ويبقى سليما ً لمدة طويلة . ولا تزال في بعض البيوت بقية من هذه المساند ، من شغل نصوح ، منذ أكثر من ستين سنة .

هذا هو نصوح ، صاحب الصنعة ، والعامل الكادح المجدّ ، الذي شارك في صنع جهاز كل عريس وعروس ، وكان هذا الأثاث المهم ، شاهدا ً على مهارته وإتقان عمله . لقد كان نصوح حرفيا ً بارعا ً ، وعاملا ً نشيطا ً لم يركن إلى الراحة ، ولم يمِلْ إلى الدّعة . وعندما مرّ الشيخ محمد الهادي اليشرطي بالقرب من بيت نصوح ، وكان عليّة مبينة بالحجر الرملي ، مطلة على ساحة العين ، فأعجبته وسأل نصوح ، عن عمله وكسبه ، فقال نصوح : إنني منجّد ، أكسب قوتي بعرق جبيني ، وهذه العليّة بنيتها من عمل يديّ هاتين .

فقال له الشيخ : هنيئا ً لك يا نصوح ، وبوركت يداك . فإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده .

وظل نصوح يعمل ويكدّ ، إلى أن أقعدته الشيخوخة عن العمل ، وبقي في بيته إلى أن وافته منيته سنة 1979 م وبموته انقرضت حرفة التنجيد ولم يتعلمها أحدٌ من بعده .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى