من يجرؤ على حكم مصر ؟
كتب يوسف معوض : تعود أحداث مصر إلى أسباب اقتصادية أولاً . والتكاثر السكاني يقضي على كل امكانات النهوض الاقتصادي . وستبقى مصر تنتقل من أزمة إلى أخرى إلى أن تضبط الوضع سلطة قامعة مثل …الجيش .
« بنتك تلبس على الموضة وإحنا السبعة في أوضا » ! هي اللازمة التي ردّدها المتظاهرون في شوارع الاسكندرية ضد أنور السادات . كان ذلك في 18 يناير – كانون الثاني 1977 عندما قرّرت الدولة وقف دعم المواد الأولية . فارتفعت أسعار الخبز والسكر والملح والشاي ثلاثين بالمئة . ولا ندري كيف رضيت الحكومة باتخاذ هذا القرار الأخرق ! فكانت ثورة « العيش » .
من أين لنا أن نشبع ؟ تعود أحداث مصر التي نشهد إلى أسباب اقتصادية ومعيشية . مجدداً ، هي في جوهرها ثورة « العيش » . لم تنطلق الأحداث تحت عنوان المزيد من الحريات أو المشاركة السياسية . وسيناريو انتفاضة الجوع يكرّر نفسه في كل بلد عربي تقريباً ، حيث الجماهير راحت تنفض الغبار عنها وقد سقطت هيبة السلطات ، ولم يعد الخوف المزمن يتحكم بالنفوس . الشعب يقول : « بدنا ناكل ، جوعانين » . تأثرت البلاد العربية مثل غيرها بالعولمة وبأسعار المواد الغذائية المتطايرة في النصف الثاني من سنة 2010 حسب تقرير منظمة التغذية الدولية .
ليست دورات محو الأمية السياسية بل إنها الحرائق في روسيا والأمطار الغزيرة في كندا وإنه الطقس الجاف في الارجنتين! هذه كلها مجتمعة أدت في ما أدت إلى « كر السبحة » عند ارتفاع أسعار المواد الغذائية بمعدل 32 % . عندما انتحر محمد بو عزيزي في تونس ، أطلقت شرارة الانتفاضات.
هوذا لب الموضوع حتى ولو استرسل البعض بتعداد المطالب الديموقراطية أو إدانة الفساد أو الدعوة لانتخابات حرة نزيهة . يتساءل بطرس غالي الأمين العام السابق للأمم المتحدة في مقابلة تلفزيونية : كيف يمكننا الاستمرار على هذه الحال نحن المصريين وقد يبلغ عددنا المئة مليون بعد عقدين ، ونحن لا نعيش سوى على خمسة بالمئة من أرضنا ، فالباقي صحراء قاحلة . صرخته هذه تنذر بالكارثة . وما يزيد في خطورتها أن 50 % من المصريين الذين يبلغ عددهم 85 مليون اليوم ، هم دون الـ 15 من العمر ، أي إنهم يشكلون قوة عمل هائلة لا تستخدم .
والأدهى أن 90 % من العاطلين عن العمل هم دون الثلاثين . كيف المفر من مواجهة الواقع الاجتماعي الكارثي ؟ فلو استرجعت كل الأموال التي اختلست من أهل النظام البائد ، لما غطت العجز ، ولما أمنت الرغيف إلا لفترة وجيزة.
من يجرؤ ؟ يقضي التكاثر السكاني أو بالأحرى « التآكل » السكاني على كل إمكانات النهوض الاقتصادي ! هل الحل يكمن باتخاذ قرارات جذرية مثل تلك التي لجأت إليها الصين ، عندما حددت النسل ؟ فكيف بفرض تنظيم صارم للأسرة على أبناء مصر ؟ لا الشرع يسمح بذلك ولا الأعراف الاجتماعية . فالبلاد مرشحة أن تنتقل من أزمة إلى أخرى ولن يضبط الوضع إلا سلطة قامعة … مثل الجيش الذي يؤثر التهدئة حتى الآن !
ومن المؤسف أن يلعب المثقفون وناشطو حقوق الانسان والمنفيّون من أهل الفكر دوراً ملتبساً. يطلون علينا مطالبين بإلغاء حالة الطوارئ وبإطلاق الحريات العامة وبمكافحة الفساد ، وكأن هذه المطالب ستحلّ المشاكل الغذائية المطروحة .
وهذا ما قد يفسر تلكؤ الإخوان المسلمين ، عن الخوض في معركة الاستيلاء على الحكم . والسبب نفسه قد يحول دون تدخل حاسم للقوات المسلحة . فالجيش ، وهو ضابط الإيقاع على الأرض ، قد يكتفي بالحكم ولو لفترة من خلال بعض المناورات التي تحفظ ماء الوجه لجميع الأطراف .
هل يكتب على الدكتور البرادعي أن يكون عزيز مصر ، فتنحل العقد والمشاكل لأنه حائز على جائزة نوبل للسلام ؟ فمن أين يؤمن توزيع الطحين الذي هو في أساس السلم الأهلي ؟ .
كانوا سبعة في « أوضة » في 1977 أيام السادات ، أما اليوم فصاروا عشرة في « أوضة » . وهل في اليد حيلة ؟ أبإطلاق شعارات المجتمع المدني من جندرة و تمكين وكل ما هو مرضٍ سياسياً politically correct ؟ وهل بوسع مصر ، التي تستورد 80 % من استهلاكها الغذائي ، أن تلبّي حاجات أكثر من مليون رضيع جديد في كل سنة ؟ .
أرقام الجيش : منذ انقلاب 1952 والجيش المصري مصدر السلطة في أرض الكنانة ، فهو ملازم للحكم كما المجاعة ملازمة للفقر ومتربصة بالبائسين منذ أيام موسى وفرعون والسنين العجاف . قوامه يزيد عن 450.000 عنصر ، حوالى 350.000 منهم يخدمون في القوات البرية . بالمقارنة كان هذا الجيش أضخم عدداً قبل توقيع السلم مع إسرائيل ، عندها بلغ عديده حوالى 750.000 جندي ! هذا الجيش اليوم له مؤسساته الخاصة التي تدر عليه الدخل ، فتعطيه نوعاً من الاستقلال الذاتي . والرقم الأخطر هو المساعدة السنوية التي تحصل عليها القوات المسلحة من الولايات المتحدة والتي تبلغ حوالي المليار ونصف المليار دولار .
أين النواطير؟ كل حكام مصر منذ دولة المماليك كانوا ينتمون إلى طبقة الجند . وشرعية المماليك كانت شرعية انقلابية . والفساد في مصر كما في سائر البلاد العربية أعتق من الملح . والصراع لن يستمر في ساحة التحرير ، والعدوى لا محال ستنتقل إلى صميم الجيش الذي يشكّل بيضة القبّان . فمن سيتمكن من الآلة العسكرية وجبروتها ؟ أهم الضباط الشباب أم المسنون المترفون ؟ أهم الضباط الميالون إلى الغرب أم المنتمون إلى تنظيم الاخوان المسلمين ؟ . عن جريدة النهار .