فن الاستيلاء على انتفاضة شعبية
كتب أْ . غسان الإمام : الحكم فن أكثر مما هو علم . هناك قاعدة علمية للحكم . كلما كان الحاكم فنانا ً واسع الخيال . قادرا ً على التجديد والابتكار ، تجاوب المحكومون مع لعبته . مع طاقته على الاجتذاب . على الإلهام والإلهاء .
الوصول إلى الحكم أصعب من التربع على قمته . في النظام الجمهوري ، المنافسة شديدة على الوصول ، سواء كان ديمقراطيا ً ، أو أوتوقراطيا ً ( مطلقا ً ) . في العصر العربي ، عرف عبد الناصر كيف يصل ، وكيف يحكم . اختصر رغبة الإخوان في الحكم. فقد كانوا بلا خيال ، بلا عصرنة . كانت قدرة عبد الناصر على الإلهام والاجتذاب ، لا تبارى . لكن لم يعرف كيف يورث .
ضرب السادات ( الوارث ) الناصريين . صالح إسرائيل . حاول إلغاء عروبة مصر. إستعان بالإخوان . سجن الطيف السياسي كله . فاغتاله تنظيم ديني خارج من رحم الإخوان . عرف صلاح جديد كيف يصل . ولم يعرف كيف يحكم . عرف حافظ كيف يصل. ويحكم . ويورث . ورث حسني مبارك بسهولة نظاما ً يملك الشرعية العسكرية .
كان مبارك أوسع خيالا ً من السادات . أفرج عن الجميع . ضيق على الإخوان . لاحق ” الجهاديين ” والتكفيريين . أعاد مصر إلى قلب العروبة . بل حارب الفساد . لاحق عصمت شقيق السادات . حيد جيهان .
مصر يسهل حكمها . تصعب إدارتها . حكم مبارك مصر ثلاثين سنة . مع تقدم العمر ، يفقد السياسي الخيال . فقد مبارك القدرة على الاجتذاب والإلهاء . بالمقارنة مع الحال في النظام العربي ، لا أعتبر مبارك دكتاتورا ً . بل كان ضحية انفتاحه المحسوب : حريات التعبير . الأحزاب . الحوار . المعارضة . الصحافة .
ربما كانت لمعركته الناجحة ضد العنف الجهادي ، سلبيات . تحول جهاز الأمن إلى جهاز قمع . مع الليبرالية ، تحالف النظام مع رجال البيزنس . مع أزمة الرأسمالية العالمية ، إستوردت مصر غلاء أسعار الغذاء والسلع . لم يعرف النظام كيف يستقطب الطبقة الوسطى الجديدة ، فانضمت إلى البروليتاريا الفقيرة . لم يعرف كيف ينظم الأسرة . فاستولد ثلاثين مليون طفل . صاروا ً شبابا ً بلا أمل .
من المشرق إلى المغرب ، هناك انتفاضة على النظام الجمهوري . طبقة شابة جديدة متمردة . بإلغائه السياسة ، ضمن النظام لها الحماية من الآيديولوجيا الدينية والسياسية . لكن لم يضمن لها الرعاية . لم تعرف منه حنانا ً. تعاطفا ً. عملا ً … فطالبته بالكرامة . بالحرية . بالغذاء . لم تطالبه بآمال جيل مضى في الوحدة. في استعادة الأرض المحتلة . بل لم تهتف بسقوط أميركا . أو إسرائيل .
عندما يهتز نظام بلا قدرة على الاستمرار ، يتجدد فن الصراع على السلطة . في مصر اليوم ، سباق داخلي وخارجي محموم ، لانتزاع المبادرة من طبقة شبابية تملك البراءة . ولا تملك التجربة . والخبرة .
في إصرار الانتفاضة على ترحيل مبارك فورا ً ، تتوفر الفرصة أمام القوى السياسية الأكبر عمرا ً وتجربة ، لتصفية المبادرة . لصبغها بألوانها الدينية أو السياسية . في إصرار مبارك على استكمال ولايته الدستورية ، هناك فرصة شهور ، لبلورة قيادة شابة . زعامة تحمي الانتفاضة من السطو . من الخطف . من استلاب المبادرة ، وتجييرها لخدمة ليبرالية محمد البرادعي الباهتة المتحالفة مع الجمودية الإخوانية المحافظة .
إشكالية الانتفاضة تكمن في بعثرة اتجاهاتها . هناك اشتراكيون . نقابيون . طلبة. مثقفون . أميون . ثوريون رومانسيون . لحق البرادعي بالانتفاضة في حلمه ليصبح رئيسا ً ، دمر قدرة الانتفاضة على الصبر .
الإخوان يتقدمون وئيدا ً لملء الفراغ . فن الاستلاب يفرض عليهم القبول مرحليا ً بزعامة البرادعي ، أو رئاسته لنظام تعددي ، لهم فيه دور المشاركة ، ريثما يستكملون مخططهم للانفراد بالحكم . وإعداد المزاجية النفسية المتسامحة لدى المصريين ، لقبول نظام إخواني صارم ، تماما كما حدث بعد ” أسلمة ” غزة التي ” تنعم ” اليوم بلهيب إمارة إخوانستان .
في مصر اليوم ، مائة ألف أميركي . وسفارة أميركية هي الأضخم في العالم . بعد السفارة في بغداد . هؤلاء هم نتاج زواج المتعة بين النظام المصري وأميركا ، في الحرب المشتركة ضد العنف الديني .
في هذا الزواج ، فضلت أميركا تأمين الاستقرار. على نشر الديمقراطية. الطرافة أن جورج بوش الابن الذي لا يعرف شيئا ً عن العالم ، هو الذي اقترح على العرب تجميلات ديمقراطية ، في إطار مشروع شرق أوسطي . رفض العرب ” النصيحة ” متعللين بأجنبيتها المفروضة ، وبخوفهم من تذويب العروبة في حوض أوسطي ، يضم يهودا ً . أتراكا ً . أكرادا ً . باكستانيين . وإيرانيين .
في حروبها ” الإسلامية ” ، تراجعت أميركا أوباما عن تذكير العرب بالديمقراطية . رفعت شعار المصالحة مع الإسلام . آه ، من أميركا ! سارعت إلى الغدر بحليفها مبارك . تستعجله مع السيدة نجاة ” الرحيلا ” ، لتتمكن من هدهدة وركوب الانتفاضة .
البرادعي لغز بالنسبة لأميركا . أزعجها في التسامح مع مخطط إيران النووي ، عندما كان مديرا ً للوكالة الدولية للطاقة الذرية ، ولعدم وضوح سياسته تجاه إسرائيل . ومع ذلك فأميركا تحاور الإخوان الحلفاء المرحليين للبرادعي ، حول السماح لهم بدور في حكم مصر الجديدة ، شبيه بدور إخوان العراق في التعاون مع الاحتلال .
في استئثار المؤسسة العسكرية المصرية بكامل المساعدة المادية الأميركية (1.5 مليار دولار سنويا ً ) لشراء سلاح حديث من أميركا ، تستغل إدارة أوباما الفرصة للضغط على جنرالات مصر ، لترحيل مبارك فورا ً ! قطع الفريق سامي عنان رئيس الأركان ، ورجل الجيش القوي ، زيارته لواشنطن ، ليعود سريعا ً إلى القاهرة . بعد عودته ، تدخل الجيش للفصل بين أنصار مبارك وجمهور الانتفاضة .
إلى هذه اللحظة ، ما زالت قيادة الجيش موالية لمبارك . حوار الجيش مع إدارة أوباما يجري من خلال اللواء عمر سليمان الذي عينه مبارك نائبا ً له . سليمان يتمتع بمصداقية كبيرة . في نزاهته وبعده عن الفساد ، يحظى سليمان بتأييد الجيش . النظام . الانتفاضة . وإدارة أوباما.
في انتظار حسم الجيش لموقفه الحريص على استكمال مبارك ولايته الدستورية في سبتمبر المقبل ، يبدو عمر سليمان أكثر المتنافسين حظا ً في الرئاسة.
في منافسة البرادعي ، ظهر على المسرح عمرو موسى . هذا المرشح عروبي متعدد المواهب . شارك في دبلوماسية الكامب المصالح لإسرائيل . في ذكائه الدبلوماسي ، صاهر عمرو موسى أسرة عبد الناصر . لكنه يحظى بقبول فاتر ، لدى الأسرة العربية ، لمحاولته إنقاذ الأسرة الصدامية الحاكمة . أبعده مبارك من وزارة الخارجية إلى الجامعة العربية، عندما أصبح عمرو عبئا ً على سلام بارد مع إسرائيل .
هناك مثل مصري طريف يقول: ” عريس الغفلة والباب بلا قفلة ” . فإلى جانب هؤلاء المرشحين ، هل يظهر فجأة مرشح يقلب التوقعات ؟ مرشح على اليمين ؟ على اليسار ؟ مشرح ديني . مدني . عسكري ؟ ليبرالي . اشتراكي ؟ لا أحد يعرف . لكن ” ليالي الحلمية ” حبلى بالمفاجآت . في مسيرتها الحضارية عبر سبعة آلاف سنة ، في نضجها المزاجي . في نفسيتها السهلة . المرحة . في براءة انتفاضتها ، من سلاح قاتل في العراق ، ومن صاروخ عاجز في غزة ، تظل مصر حبيبة العرب . وأملهم . إن لم تعد قائدة لهم ، فهي تبقى ملهمة . يفقد العرب في غياب مبارك. صديقا ً. ودودا ً . لم يتدخل في شؤونهم . لعل القاعد ، أو النظام الجديد يتذكر فلسفة تاريخية : كلما انحسر نفوذ مصر في العالم العربي ( لصالح اختراق تركي . إيراني . إسرائيلي ) خسرت مصر إستقرارها الداخلي … نقلا ً عن جريدة الشرق الأوسط .
جاء في “القبس” :
في العالم العربي …حين يحين الجد، وتنزل الجماهير إلى الساحات، ويصبح بينها وبين الهراوات مسافة الشعر الذي على الرؤوس، وحين تستعر النار بالاجساد التي تحلم بسنبلة قمح تمر عبر مصانع الأثرياء لتستقر رغيف خبز على ساعد طفل يحمله منهكا الى والديه العجوزين.. حين يحصل كل ذلك، وتنجح الثورة، ويصبح الشارع آمناً. يخرج السياسيون من مخابئهم بهدوء الحذر، يطلون أولا برؤوسهم، ثم يدفعون أمامهم أحد الثوار للتجربة، وحين يتأكدون أن لا رصاص أطلق باتجاه هذا «التجربة»..يخرجون نافخين صدورهم.. ثيابهم مكوية، صوتهم رخيم، خطواتهم كبطريق ذاب الثلج فجأة من تحته.
هؤلاء هم من يجلسون على طاولة المفاوضات … وهؤلاء هم الذين يوزعون المناصب على القيادات في احزابهم..ويتركون فتات المقاعد للآخرين..هؤلاء من يكشطون «الفانيلا» وحبات الفراولة من فوق قالب «الكيك»، ثم تأتي شريحة أقل منها في التسلسل، لتحصل على «اسفنجة» الكيكة، ليحضر بعد ذلك الجمهور فلا يجد سوى ورق القصدير في الأسفل.
هذه الحالة الانتهازية في الثورات العربية ليست وليدة اليوم، بل انها كانت موجودة حتى في زمن الاستعمار، وما تلاه من حقب انقلابية، حين كانت الاحزاب مثل احجار الرحى والشعب هو الدقيق المنحشر بينها.
لذلك يفترض بالبسطاء اليوم، ان يتنبهوا الى ان هناك من يحمل حقيبة سياسية وينتظر في زاوية الشارع البعيد عن شظايا المظاهرة يتحين الفرصة، ليسرق منهم ثوراتهم، ويطويها كربطة عنق «حمراء» او «خضراء» في الحقيبة.
هؤلاء … لا يختلفون عن الانظمة التي ثار الناس ضدها، بل هم الجائعون الجدد الذين سيدخلون الحكم، و«عدادات» امعائهم على «الزيرو»!
تحت عنوان انتهازية كتب ايلي فواز على موقع ناو ليبانون:
في سعي السياسي الى وهم السلطة يجد كل المناسبات والاحداث جيدة من اجل استصدار موقف ما، او التأكيد على ثوابت كانت بالامس القريب مختلفة عن تلك التي يعتمدها اليوم. يبقى في طليعة هؤلاء وليد بك جنبلاط الذي اصبح اليوم منظرًا للثورة المصرية ويدعو لاسقاط الرئيس مبارك ورموز حكمه بعد ان كان زاره عدة مرات في الاونة الاخيرة. طبعا دعواته من اجل تحرر اكثر او ديمقراطية اكبر في مصر لن يسمعها الشباب المتجمهر في ميدان التحرير، وهي طبعا لن تؤثر على مجريات الاحداث هناك، هي فقط من اجل الاستهلاك المحلي ومن اجل التأكيد مرة جديدة ان اعداء “حزب الله” وسوريا وايران اصبحوا ايضا اعداء له. والسؤال هل موقف وليد بك من الديكتاتوريات هو موقف مبدئي من كل الديكتاتوريات لا سيما المتحالف معها؟ ثم هل يستطيع السيد جنبلاط تحديد موقفه من توقيف السلطات السورية بشكل تعسفي الناشط في حقوق الانسان السيد هيثم المالح؟ ثم كيف يصالح بين تمسكه بحق الانسان في حرية الرأي في مصر والتعدي على هذا الحق في سوريا؟ طبعا لن ننتظر جوابا، كي لا نزيد في حراجة موقفه.
على كل الاحوال وليد بك لا يقف وحيدا في ساحة الانتهازية. لنتذكر جيدا يوم استفاقت ايران على وقع الثورة الخضراء ماذا قال نصرالله لبعض اللبنانيين الذين استرسلوا في تحليل ابعاد تلك الثورة: “أنا أنصح قوى 14 آذار وقياداتهم ومحلليهم ووسائل إعلامهم وسياسييهم أن يتركوا موضوع الانتخابات الايرانية، فهذا الامر لا يفهمون فيه ولا داعى لأن يعذبوا أنفسهم”. ولكن ما ينطبق على عامة الشعب في خصوص ايران لا ينطبق بالطبع على مرشد الجمهورية اللبنانية في خصوص مصر، فهو يستطيع ان يقحم نفسه في شؤونها ان حلا له الامر. لذلك اطل على الناس قبل يوم ليؤكد دعمه للثورة المصرية التي حسب تعبيره هي ثورة انسانية وسياسية واجتماعية، انها “من نتاج شعب يقرر ما يريد والى أين سيصل وهو صاحب القرار في كل ما يقول ويفعل ويتطلع إليه”. والسؤال كيف يوفق نصرالله بين نظرية “الشعب صاحب القرار” وايمانه العميق بولاية الفقيه التي تقوم اساسا على إلغاء الدور السياسي للشعب، وتتعامل مع فقيه يعتبر مُنصّبًا من قبل الله لا يمكن الاعتراض أو انتقاد سياسته، وتأخذ تصرفاته صبغة مقدسة غير قابلة للمساس؟ طبعا ليس دعم الحرية او الديمقراطية مبتغى كلمة نصرالله، ولكن هي مناسبة للنيل ممن وقف بوجه ايران في سعيها إلى التوسع يمينا وشمالا فقط لا غير.
حتى الصحافة لها مكان في ساحة الانتهازية. هل منا من يذكر صورة الوجه الجميل للشهيدة ندى سلطان المضرج بالدماء؟ وكيف اغتيلت على يد باسيج ايران؟ هي هزت مشاعر الناس كلها ولكنها لم تهز ايا من مشاعر الصحافي ابراهيم الامين بالدرجة التي هزته صورة عادية لمتظاهر مصري وعلى وجهه بضعة جروح سمحت له ان يعنون رئيسيته في جريدة الاخبار “كلاب حسني مبارك” في موقف معبر لالتحام الانتهازية مع قلة الاخلاق.
وهذا غيض من فيض..