آخــــر خيمــــة مشتركــــة
كتب الأستاذ سمير عطا الله : لم يتطلع عربي إلى ما يحدث في لبنان إلا ورأى من النافذة أيضاً أحداث الجزائر وتونس واليمن، وتظاهرات عمانَّ وقلق القاهرة وتجدد التفجيرات الهمجية في العراق. نظام عربي متعب وهوة متزايدة بين النخب الحاكمة وجموع المحكومين، أو “جماهير” العرب، وهو المصطلح الذي يرى فيه أنسي الحاج، ذلاً استعبادياً. غير أن الدكتور خالد الدخيل يلاحظ في “الحياة” (الأحد 23 ك2) فارقاً هائلاً في طوايا الصورة العامة . ففي حين ينزل التونسيون إلى الشوارع كل يوم، يحرقون ويحطمون، من غير أن تتضح أي هوية للنظام البديل، يختلف الوضع في لبنان، بأن أمم العالم ظاهرة بوضوح في صدر المشهد. وفيما يبدو مصير الحكومات على المحك، يبدو في لبنان على المحك مصير النظام ومصير القالب الوطني، الذي طالما كان هشاً ومعرضاً للعطوب، لكنه لم يكن معرضاً للتفكك ولا لمحنة في مثل طبيعة هذه المحنة، اذ تتهدد وحدته ولبنته، ليس من الصراع بين الأكثريات والأقليات، بل من المواجهة الحادة بين شقي الأكثرية الكبرى، المسلمين.
في الماضي، كان الصراع بين المسلمين والمسيحيين يهدد الميثاق، أو الصيغة، أو آداب التوازن السياسي وشكلياته وحساسياته، لكن الخطر تجاوز جميع آفاق الصراعات الماضية وابعادها، كي يلامس احجار الزاوية ومكوَّنات الصيرورة. وبسبب علنية الصراع وخطاب المواجهة، بدا ان الطوائف الأخرى لم تعد أكثر من اضافات، عليها ان تختار بين معسكرين، لا بين حيادين.
ثمة سابقة أخرى زادت درجات الفزع ودقات الخوف. ففي بلد اعتاد الهزات والانفجارات والتجاذبات، وحتى الحروب، هذه المرة الاولى لا يكون فيها مكان لـ”قوة ثالثة”. ثورة 1958 وحرب 1975، في بداياتهما ونهاياتهما ظهر شيء بالغ الاهمية اسمه “القوة الثالثة”. والقوة الثالثة تميزت بأنها ليست مسلحة لكنها أيضا ليست ضعيفة. لم تكن منظمة أو حزبية، لكنها كانت تمثل المدنيين والعزَّل ورافضي القتال والهوس. ولم تكن ميليشيوية، لكنها كانت تعمل للوصول الى الحلول عبر المؤسسات والاحتكام الى اختصاصاتها. طليعة “القوة الثالثة” عام 1958 كان غسان تويني، الذي سوف يكون في الموقع نفسه عام 1975، اذ تتنادى وجوه مدنية وحدوية كثيرة، في محاولة شجاعة، طليعتها عادل عسيران ونجيب ابو حيدر ونجيب علم الدين، وعدد كبير من الذين يمثلون النسيج اللبناني، وتيار الاعتدال، والالتقاء، والهموم الحقيقية للناس: الحرية والكرامة والتطور.
كان مفزعاً هذه المرة ان لا وجود اطلاقاً لباب الطوارئ وممرات الخروج. أو حتى للادلّاء الذين يشيرون الى طرق الانقاذ. وقد كان اغلاق الحوار في القصر الجمهوري واعتبار مبدأ الحوار نفسه طرفاً في الصراع، صفحة مؤلمة في تصاعد النزاع السياسي ودفع المعركة نحو اتجاهات مجهولة التداعيات.
اختصرت سيدة المزاج الوطني المرتعد في مقابلة مع “وكالة الصحافة الفرنسية” عندما قالت: تعبنا! لا أكثر، ولكن ليس أقل. بلد معلق على حافة الهاوية، تُمدُ اليه الحبال من كل جهة، وتمد من كل جهة الايدي التي لا تريده ان يتمسك بالحبل الذي يريده او بالاحرى، الذي يتراءى. ليس في ما أعرف، في التاريخ الحديث، بلد تكاثرت على قضيته الامم مثل هذا البلد. لا يوغوسلافيا السابقة، وصلاتها التاريخية والعوامل البلقانية المرافقة، ولا بولونيا، التي شغلت المانيا وفرنسا والسوفيات والفاتيكان وأوروبا الشرقية قبيل سقوط الشيوعية الاممية.
لماذا كل هذا الاهتمام؟ لأكثر من سبب، معظمها بديهي: لأن لبنان، في هذا الشرق المعقد، آخر خيمة مشتركة بين الاسلام والمسيحية. لأن لبنان، في هذا العالم العربي المتهافت، آخر توافق على السلطة بين السنة والشيعة. ولأن لبنان، في الشارع الواضح نحو عصر التشدد والرفض وجعل الكهف رمزاً للمسيرة، هو آخر خط فاصل بين فكرة جعل التراث منطلقاً الى النمو والتطور، وجعل الحاضر والمستقبل دفنة في التراث. ولأن لبنان، على رغم عواهنه وعاهاته وفساده وبثوره ودمامله، هو آخر شكل من اشكال الممارسة الديموقراطية في العالم العربي، فيما لا تزال دولة في ثراء قطر ودورها في مرحلة تجربة انتخابات بلدية أولى. ولأن لبنان، على رغم علله وضعفه ومثالبه وألوان سياسييه وشبق المال والسلطة، لا يزال المدخل الاهم الى القضية الفلسطينية، كما هو خوف الغرب على اسرائيل.
ليست مسألة “كم ارزة عاجقين الكون” بل هي مسألة الكون الذي ضاق حول بقعة صغيرة من الارض، فيها كل مذاهب العالم ودياناته وفيها الوجهان العسكري والثقافي للصراع العربي – الاسرائيلي، وفيها تضيق مساحات الارض وتضيق صدور الخلق، بعضهم ببعض.
هل تكفي كل هذه العناصر كي نكون مختلفين عن تونس، التي زحلت من هنا ذات يوم، لكي تقيم على الطرف الآخر من المتوسط؟ وأيضاً عن الجزائر؟ بل حتى ايضا عن العراق الذي سوف ينتج بعد سنوات 12 مليون برميل من النفط كل يوم؟ كثير؟ اذاً، سجل، اذا سمحت 12 مليوناً ونصف مليون، كل يوم.
لكن هذا لا يلغي أهمية هذا البلد، المقبل على شيء من الغاز، الواقع على نقطة بين نقطتين وفي عالم بين عالمين، وعلى مفترق بين طريقين: إما ان يذهب الشرق في اتجاه الاسلام التركي، الذي يضع الحجاب ويطلب الوحدة مع أوروبا العلمانية من دون أي حرج، وإما ان يرى في كل حركة أو تظاهرة شبح المتشددين ومشروع اهله للوصول الى السلطة، محفوفين بفتاوى الشيخ القرضاوي أو الملا عمر.
ليست كل دولة في قدرة قطر، التي يفتي منها الشيخ القرضاوي كل يوم، وترسل الى الاكاديمية الفرنسية احدى أجمل زوجات الحكام في العالم. ووقت تعطي الشيخة موزة المسند، لقطر، صورة الحداثة ونموذج حق المرأة، تستقبل الدوحة، دونما انقطاع، الاصوليين المبعدين من دول أخرى. وليست كل دولة او بالاحرى أي دولة في التاريخ، تقوم على أرضها أكبر قاعدة عسكرية أميركية خارج الولايات المتحدة، وفضائية “الجزيرة”، رأس الحربة في مواجهة السياسات الاميركية والغرب وفي تشجيع وتبني حركات الاعتراض، كما هو الحال في تونس الآن. وقد عرفنا حتى الآن ان ثورة تونس قامت بسبب طالب فقير يبيع الخضار على عربة خشبية حمراء، تحولت رمزاً تاريخياً، وعرفنا ان رأس النظام قد عزل، ولكن في انتظار ان نعرف على مَن وماذا وكيف سترسو ثورة تونس، فإننا لن نعرف أباً لها سوى قناة “الجزيرة” ومراسليها.
تبحث تونس عن هويتها الجديدة كل يوم، من غير ان تخضّ العالم. وتلتهب الجزائر ثم تهدأ من غير ان تهدد الحرائق الآخرين. وبصرف النظر عن طبيعة النظام الذي سوف يقوم في تونس بعد حين، اشتراكي، رأسمالي، أو اسلامي، سيبقى التأثير محصوراً، الى حد ما، والى زمن ما. هذه مسألة غير ممكنة في لبنان. نحن بلد كتب عليه إن هو ذهب الى الهاوية، أن يأخذ معه الامم. لذلك كلما بلغها، استفاق وعاد. والحمد لله … نقلاً عن جريدة النهار اللبنانية .