المسيحي الشرقي ليس عابر سبيل
كتبت سوسن الأبطح : التباكي الغربي على مسيحيي الشرق استفزازي ومنافق. أكبر وأخطر طعنة وجهت إلى صدر التعددية العربية هي اختراع دولة عنصرية دينية اسمها «إسرائيل» في قلب المنطقة، ثم تفريغ الدول العربية من يهودها، وهم أحد مكوناتها الأساسية كما المسيحيين تماما، وحشرهم في غيتو واحد. نموذج قبيح ومخزٍ للإنسانية جمعاء، في محيط عربي يعاني أصلا الخلخلة والاهتزاز، ولا يعرف كيف يدافع عن مكوناته التاريخية التي لها خصب يستحق حمايته برموش العين . رضوخ العرب لمبدأ الاعتراف بالدولة الإسرائيلية (اليهودية ضمنا) والتفاوض على حل الدولتين – على أرض فلسطين – بدل إصرارهم المستميت على الدولة الواحدة المتعددة الديانات (علما بأن إسرائيل لن تقبل بهذه أو بتلك) هو قبول طوعي وخطير بدولة دينية، تبث سمومها وفيروساتها المعدية في كل اتجاه. فإذا قبل العرب بدولة يهودية، لماذا يرفضون دويلات مسيحية وأخرى إسلامية؟ لا بد أن هذا السؤال يدور في أذهان الكثيرين، بينهم مسيحيون في لبنان وربما العراق. سامي الجميل وأصدقاؤه في حزب الكتائب يعلنون صراحة أن الفيدرالية هي الحل. وثمة من يفكر جديا في العراق، حفاظا على ما تبقى من مسيحيين، بإيجاد محميات لهم يعزلون فيها، بعد أن نجا الأكراد بدويلتهم. انفصال جنوب السودان ذي الغالبية المسيحية رغم ما له من خصوصية، سيشجع آخرين. ما يحدث في مصر سيكون له ما بعده. وسواء كانت «القاعدة» هي المتورطة في مجزرة الكنيسة البشعة أم إسرائيل كما تشير أصابع الاتهام، فنحن أمام حرب دينية غبية لا هوادة فيها. وكل ما يفعله العرب، أصحاب الضمائر الحية، هو شجب التطرف الإسلامي وحده، الذي لا بد أنه آخر الخيط وليس أوله. فالمشهد عارم ورؤية بانورامية للمسار التراجيدي الطويل وحدها الكفيلة بتوضيح الرؤية.
مسؤولية العرب المسلمين هائلة باعتبارهم الغالبية التي تحكم وتقرر. اللعب على أوتار الدغدغة السياسية للإسلاميين، بحيث يسايرون مرة ويقتلون مرة أخرى، يفتح أبواب الجحيم على مصراعيها. هدر حقوق الأقليات لإرضاء هذا الطرف أو ذاك، لا يحصد سوى الفتنة. ترك البلاد العربية ناقصة الاستقلال، مرتهنة للغرب ولعواصف الحسابات الخارجية لن يزيد الوضع إلا تعقيدا. فبصرف النظر عن اليد التي تقتل المسيحيين في العراق، فإن عددهم بعد الاحتلال الأميركي تناقص إلى النصف. وفي لبنان لوحظ أن موجات الهجرة تتزايد مع كل عاصفة أمنية هوجاء، أما مسيحيو فلسطين فإن إسرائيل كانت كفيلة بإفراغ مهد المسيح منهم، وهي حريصة على إراحة القدس من فلولهم، للتسريع في تهويدها. فبحسب الإحصاءات يهاجر كل سنة من الأراضي المحتلة 600 مسيحي بسبب الضغط المتزايد.
تهجير المسيحيين يسهل بسبب التعاطف الغربي معهم، واحتضانهم كلاجئين من عسف المسلمين المتوحشين. مجلة «نوفل أوبزرفتور» الفرنسية نعت في عددها الأخير 20 مليون مسيحي يقطنون الشرق من المغرب العربي وصولا إلى أفغانستان، وقالت إنهم مخيرون بين اعتناق الإسلام أو الموت. ووصفت المجلة تركيا بأنها «موصومة تاريخيا بالقضاء الممنهج على المسيحيين»، مذكرة بالمجزرة الأرمنية، وما سمته عداء الدولة العثمانية واضطهادها للمسيحيين. وهو كلام ليس كله تلفيقا، لكن الشرقيين سيجدون حين يبحثون في سجل الغرب وحاضره الأسود، وصمات عار يندى لها الجبين.
يخطئ المسيحيون الشرقيون، رغم المجازر التي يتعرضون لها، حين يظنون أن خلاصهم يأتي من الغرب، أو أن التطرف يحارب بالتطرف. سعي ناشطين أقباط للطلب من مجلس الأمن ودول غربية حمايتهم، لن ينهي المأساة. دموع التماسيح التي تذرفها أميركا لا يبدو أنها ستحمي 400 ألف مسيحي هم كل ما تبقى من خمسة ملايين عراقي. مشروع القانون اللبناني الذي يطرح حاليا لمنع بيع الأراضي بين الطوائف المختلفة، للحد من الفرز السكاني، رغم نيته الحسنة، يشبه تماما القانون الديني اليهودي الذي يمنع على اليهودي في داخل إسرائيل بيع أو تأجير عقار لغير يهودي.
الحلول المجتزأة والصغيرة، لا يمكنها أن تحل معضلة عتيقة ومتشعبة الجذور، أججتها مطامع خارجية خبيثة. قرارات سياسية عربية جريئة وحاسمة من المفترض أن تتخذ على أعلى مستوى لجعل المواطنة أساس التعامل مع الأفراد وليس الانتماء الديني. وبموازاة ذلك على المناهج المدرسية أن تلعب دورها الوطني الجامع في الوطن الواحد. مات المفكر محمد أركون وهو يطالب بتدريس تاريخ الأديان في المدارس الأوروبية. ونحن أولى بتدريس طلابنا، بحب وسماحة، تطور الفكر الديني عند البشر من الوثنية الأولى إلى الديانات السماوية الثلاث، وتعريفهم بأن عشرة آلاف دين تتعايش حاليا على الكوكب، وبأن في الهند وحدها أكثر من 1600 دين مختلف، ومع ذلك يبني الهنود أكبر ديمقراطية في العالم، ويطورون أفضل البرامج الإلكترونية، وينهضون من فقرهم الطويل بهمة يجب أن نغبطهم عليها. أما المفارقة الأغبى والألعن فهي أن يعتقد العرب أنهم، مع كل تخلفهم، أعلى كعبا من الهنود.
المسيحي الشرقي في العالم الإسلامي ليس عابر سبيل ولن نسمح للخبث الغربي أن يقنعه بذلك. إنه منا وفينا، ولكن، للأسف كلنا في الهم شرق.