قل كلمتك

شأن الفرد وشأن الأمّة

كتب الأستاذ ياسر سعيد حارب : تصلني كل يوم طلبات للصداقة على الفيسبوك والتويتر ، وكم أشعر بالامتنان لكل من يمنحني صداقته ، وكلما قبلتُ طلباً جديداً ، نظرتُ في سيرة صاحبه لأعرفه عن قرب . إلا أنني أستغرب عندما أجد بعض الناس يُصرّون على ذِكر مذاهبهم أو دينهم في سيرتهم الذاتية . فلقد قرأتُ في بعض السير تصنيفات مثل « طبيب مسلم » ، « كاتب شيعي » ، « مهندس سنّي » ، « باحث إسلامي » ، « على مذهب السلف الصالح » .. وقِس على هذا المنوال .

لا أعلم لماذا يحب البعض أن يُصنّف نفسه على أنه متدين ، ولا أدري إن كان يدري بأنه يمارس عُنصرية اجتماعية وعقائدية ، قد يجهل خطورتها على تلاحم المجتمع واستقراره . فعندما يقول أحدهم « أنا متدين » فإن لسان حاله يقول للآخرين  : ” أنتم لستم متدينين ، إذن أنتم على ضلال  ” ، ولم تكن فكرة التدين هذه موجودة في الإسلام أصلاً ، وكان الجميع ، من مسلمين وغير مسلمين ، يرفلون تحت راية الدين دون أن تُشكّل الفروقات العقائدية بينهم خلافات مصيرية ، إلا في بعض عصور تراجع الأمة ، كما هو الحال اليوم .

ثم أقرأ على صفحات بعض المتحمسين ، زعمهم أن تديّن المسلمين سيحقق لهم النهضة التي يسعون لها ، وأتساءل : ما العلاقة بين النهضة وبين التدين ؟ ففي التاريخ الإسلامي ، نجد أن الدولة الأموية ، التي كانت قريبة عهد بمرحلة النبوة ، وكانت مظاهر التدين والتمسك بتعاليم الدين سائدة فيها أكثر من الدول التي أتت بعدها ، لم تَقُم فيها نهضة إنسانية ، ولم تُبنَ في عهد الأمويين حضارة حقيقية ، إلا بعض المباني والزخارف الجميلة . بينما بلغت الحضارة الإسلامية أوجها في الدولتين العباسية والأندلسية ، اللتين كانتا أقل تديناُ من الدولة الأموية ، على مستوى الدولة والأفراد .

لقد كان العامل الحقيقي الذي أدى إلى نشوء حضارة إسلامية ، هو الاستقرار السياسي ، ثم النمو الاقتصادي ، ثم الاستثمار المعرفي والإنساني ، وهو ما لم يتأتّ للدولة الأموية التي كانت متحفظّة جداً ، دينياً ومعرفياً ، فسادت مقولة « الإسلام يَجُبُّ ما قبله » ، واستعاض الناس بكونهم مسلمين عن البحث والعمل ، وتم تأويل بعض تعاليم الدين بشكل خاطئ ، فاستخدمت في قمع الحريات الشخصية والفكرية ، وتجمّدت العقول وخفتت الأفكار ، وأُهملت العلوم بمختلف أنواعها ، فساد ترهل اجتماعي وفكري ، وكثرت الفتن والقلاقل ، وتزعزع استقرار الدولة .

إلى أن انهارت دولتهم على أيدي العباسيين ، الذين استبدلوا ذلك الحال بمقولة « الحكمة ضالة المؤمن » ، فانفتحوا على ثقافات العالم بعد أن وطّدوا الأركان السياسية للدولة ، ورفعوا مقدّراتها المالية وعززوا اقتصادها . ثم نقلوا الفلسفة من الإغريق ، والفن من الرومان ، والأدب من الفرس ، والرياضيات والطب من الهنود ، وأُنشئت المدارس وأُكرم الفلاسفة والعلماء والأطباء ، وانتشر العلم في جميع أنحاء الدولة . وفي كنف الدولة العباسية خرج معظم علماء ومفكري الإسلام ، من أمثال جابر بن حيان ، وابن الهيثم ، والخوارزمي ، والمسعودي ، والجاحظ ، والأصمعي ، والفراهيدي ، والطبري ، وغيرهم حتى أصبحت دولتهم هي عاصمة الحضارة ومصدر النور الإنساني .

كل ذلك كان في عصور لم يُعرف فيها التدين ، ولم يُنادَ فيها بالتدين بالطريقة التي نراها اليوم ، حيث يستخدم هذا الخطاب الفضفاض ، أحياناً ، لإلغاء العقل النقدي واتهامه بالسفسطة والإلحاد أو الضلال ، حتى يُحكِم أصحابه قبضتهم على المجتمع ويُحاصرونه بالتحريم والتحليل ، فما كان حراماً قبل عام أصبح حلالاً اليوم ، والعكس صحيح ، وعندما يسأل شخص ما عن هذه التحولات الغريبة ، يُتهم بأنه يُجادل في مُسلّمات الدين !

إن ربط النهضة ومبادئ الحضارة بفكرة التدين هو تجنٍ على التاريخ ، وتهميش لدور العقل والمعرفة ، حيث يجنح المجتمع في هذه الحالة إلى التركيز على ممارسة طقوس الدين ، ويُهمل الاستثمار في الإنسان وفي البنى التحتية وفي الاقتصاد وفي التنمية البشرية ، وفي غيرها من أُسس النهضة ، وينكفئ على بعض الممارسات التي يعتقد أنها كفيلة بمنحه النجاح في الدارين ، ويزهد في الأعمال الإنسانية التي تساهم في إسعاد البشرية ، وتُقلل من معاناتها.

فعندما نقول لشخص ما : « صلِّ لكي تنجح » ، فإننا نُجرّد الصلاة من معناها الحقيقي كشعيرة مقدسة تدعو إلى تهذيب النفس وتعززها بالقيم الأخلاقية ، لنقولبها في ممارسة ضيقة ( نجاح ورسوب ) ، وقد يصلي ولا ينجح ، وقد لا يصلي وينجح .

ذكر الشيخ محمد الغزالي مرة أنه إلتقى صيدلياً مشغولاً ببحث قضية « صلاة تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة » ، فسأله لماذا لا ينصر الإسلام في ميدان الصيدلة ويدع هذا الموضوع لأهله ! فالأمة مهزومة في ميدان الدواء ، ولا تحتاج إلى فقهاء في أحكام الصلاة .

انظر إلى الكتب الدينية وستجد التالي:  مختصر الكتاب الفلاني ، ثم تهذيب نفس الكتاب ، ثم مختصر التهذيب ، ثم تهذيب التهذيب ، ليقضي بعض شباب هذه الأمة حياتهم في قضايا مكررة ، ويتركون القضايا التنموية المصيرية ، فتنعدم الصلة بين الجهد وبين النجاح .

لا يجوز أن يدّعي من ينادي بالتدين أن جميع الحلول البشرية موجودة في الدين ، فالدين لم يوجد قوانين الطاقة ، ولم يطرح حلولاً لمشكلات التصحّر، ولم يُعالج اختلال العرض والطلب في الأسواق ، بل أتى ليضع نظاماً أخلاقياً ومنهاج حياة عاما ، ثم على الإنسان أن يبحث ويتعلم ويعرف ويضع الأسس والنظريات التي تدفعه إلى التطور والتطوير ، بما لا يتعارض مع تعاليم الدين .

إن مفهوم التدين الذي نراه اليوم ، يجعل معتنقيه أكثر تعصباً ورفضاً للآخر حتى وإن كانوا من بني جلدتهم ، لأنه لا يدعو إلى محاولة فهم أسرار العلوم ، ولا يحثّ على البحث في أنواع المعرفة المختلفة ( غير العلم الشرعي ) ، ولا يضع النجاح والتميز في ممارسات حضارية ، مثل اختراع عقار يحارب مرض السرطان مثلاً ، بل يحصر نجاح المرء في الإكثار من العبادة ، والاستعداد إلى الآخرة .

لقد كُنا نعاني من الطبقية الاجتماعية ، واليوم أضفنا إليها الطبقية الدينية ، فهذا متدين وذاك لا . إن الأمة في حاجة إلى توحيد جهودها العلمية والمعرفية والاقتصادية والسياسية ، وكل ما من شأنه أن يعزز مبادئ التنمية الإنسانية التي تعد الركيزة الأولى لقيام أي حضارة ، ولا يجوز تضخيم مفاهيم فردية ، كالتدين ، لتأخذ حيّز واهتمام المجتمع والدولة ووسائل الإعلام ، فالتدين شأن فردٍ ، والاتحاد شأن أمّة .  نقلاً عن ” البيان ” الإماراتية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى