مذبحة ضد الوطن والهوية !
كتب الأستاذ طلال سلمان : تتجاوز الدلالات السياسية للمذبحة المنظمة في كاتدرائية النجاة للطائفة الكلدانية في الكرادة ، قلب بغداد ، بشاعة القتل الجماعي بإرهاب التعصب والعمى السياسي .
كذلك فهي تتجاوز الاستهداف المباشر لجماعة دينية ( عرقية ) بالذات ، وكل ما يذكر باستئصال جذور التاريخ ، في سياق يشابه التطهير العرقي لتزوير الماضي بما يشوّه الحاضر ويدمّر المستقبل.
إنها ، ككل عمليات الإبادة الجماعية تتجاوز باستهدافاتها طائفة بالذات لتصيب تاريخ الوطن وإنسانه والأرض وأهلها ، وتتجاوز الانتماء الديني أو العرقي لتصيب الهوية الوطنية .
إنها تشرخ الإنسان إذ تنكر عليه حقه في وطنه بسبب من عرقه أو دينه .
إنها مذبحة ضد « الوطن » جميعاً ، وضد شعبه بكل « مكوناته » . ضد المستقبل قبل أن تكون ضد الحاضر، ومن قبله الماضي المشترك الموحَّد والموحِّد .
إنها محاولة لاغتيال الهوية الجامعة بدماء من وحّدتهم الأرض والحياة ، بهمومها والطموحات ، بأفراحها والأحزان ، بالمخاوف والأحلام ، ببهاء الانتصار وأحزان الخيبات والانكسار أمام قوى الطغيان والاحتلال.
إنها مذبحة في كل عاصمة عربية . إنها مذبحة للعرب من أدنى أرضهم إلى أقصاها.
إنها محاولة لاغتيال الغد في كل أرض عربية من العراق إلى اليمن جنوباً ، ومن لبنان إلى المغرب في التخم الأقصى ، مروراً بفلسطين التي تريدنا أن نتعلم من مأساتها فنهرب منها إلى جهلنا وإلى مقاتلة الذات.
لم يعد للعربي هوية وطنية أو قومية ، أُسقط عنه انتماؤه إلى أرض محددة ، وإلى مشروع سياسي يجسّد آماله في دولة . أُسقط عنه تاريخه بالماضي منه والحاضر، وضُرب طموحه إلى مستقبل أفضل .
لم يعد « مواطناً ». جُرّد من انتمائه إلى مجتمع بالذات ، هو بعضه، وهو شريك مع من وعى عليهم إخوة وأقارب وجيراناً ، في الآمال كما في الهموم ، في تمنيات الغد الأفضل ، وفي العمل من أجله.
تمّ تجريد العربي من ثوابت شخصيته وأعيد إلى وهدة الفتن والحروب الأهلية ليغدو مخلوقاً خائفاً ومخيفاً ، يُرعب الآخرين ـ أهله ـ ويصيبه الرعب منهم . يُحرَّض ضدهم حتى يكاد ينكرهم بذريعة أنهم قد أنكروه ونبذوه واتخذوه عدواً ، بينما هم تلقوا ـ بالمقابل ـ تحريضاً مضاداً يجعله ، هو بالذات ، عدوهم المتربّص بهم والذي سيغدر بهم في أول فرصة .
أُفسد الهواء فصار الناس يتنفسون الحقد والغل والبغضاء ، تمّ تشويه كل ما يجمع، وصار الإيمان بالمصير الواحد تجديفاً ، أو تخريفاً أو هروباً إلى الأحلام بل الأوهام الطفولية .
يجري ضخ الكراهية بألسنة القادة وكبار المسؤولين مدنيين ورجال دين ، سفراء وموفدين دوليين . طُويت صفحات القرابة والمصاهرة والمصالح والتوحّد في وقائع الحاضر والأحلام المتصلة بالمستقبل .
تمّ تسميم المناخ ، صار الناس يتنفسون البغضاء والغل حتى الاختناق .
مع ذلك كله ، لا يتحرك مَن عليه التحرّك ، من أهل النظام العربي إلى القوى الحية في المجتمعات العربية ، أحزاباً وشخصيات لها مكانتها ، مفكرين وقادة رأي ، ولا يبذلون الجهد لوقف المذبحة التي لن تستثني بلداً ، وستمتد نارها إلى كل طائفة ومذهب ، في مشارق الأرض كما في مغاربها.
إن الإنذارات بتدمير مستقبل الإنسان العربي ، قبل دوله ، تتوالى ، ولا من ينبّهه الإنذار فيتحرك لوقف الكارثة.
ولا يجد واحدنا مَن يتوجّه إليه مستنجداً أو مستغيثاً ، لمن نوجه الشكوى إذن؟
للناس ، لأنهم أصحاب الحاضر والمستقبل .
أيها الناس : احموا أبناءكم وأحفادكم وأوطانكم وتاريخكم قبل أن تدهمنا الكارثة .