سمات ” العقل البرجاوي “
كتب الدكتور حسن منصور الحاج : إن التراث هو فعل أصالة وإبداع . وحتى يكون لنا تراث ، يجب أن يكون موضوعاً لممارسة وعينا وبالتالي فإن وعينا لذاتنا هو الخطوة الأساسية في تشكيل تراثنا إذ أن تراثنا هو ذاتنا في جميع أبعادها الزمانية والمكانية .
من هنا ، ومن أجل المساهمة في صيرورة وعينا لذاتنا ، رأيت من الضروري البدء بمحاولة وعي الذات البرجاوية من خلال رصد بعض المظاهر في ممارستنا لوعينا ، وصولاً إلى التساؤل حول إمكانية تظهير ” عقل برجاوي ” ذات سمات خاصة به . إذن ، هل هناك ” عقل برجاوي ” ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التركيز على نقطة منهجية أساسية ألا وهي تحديد مفهوم العقل أو، على الأقل، المفهوم الذي سنعتمده للعقل في موضوع هذا المقال. في الواقع، لا أريد الدخول في رحاب التعريفات الأكاديمية المتعددة للعقل بشكل عام، ولكني أود الإشارة إلى تحديد للعقل كما سأعتمده عند الحديث عن “عقل برجاوي”. فالمقصود بكلمة عقل هنا ليس ملكة الذكاء ولا القدرة على الربط بين الأشياء ولا علة الأشياء، بل المقصود هو أن العقل هنا هو نظام من العلاقات المتعددة الوجوه يحدد ويحكم سلوك جماعة معينة من البشر.
من هنا، وانطلاقاً من هذا الفهم، فإني سأحاول تظهير “العقل البرجاوي” من خلال رصد بنية العلاقات التي يتحرك في إطارها النشاط الفكري والاجتماعي لفئات المجتمع البرجاوي. وبما أنه لا يمكننا الفصل بين البنية المجردة وواقعها سوى في المنطق المجرد، فإنني سأحاول رصد بنية “العقل البرجاوي” من خلال مظاهر أساسية في الممارسة البرجاوية؛ أي أنني سألجأ إلى نوع من فينومينولوجيا “العقل البرجاوي” انطلاقاً من العودة إلى الظاهرات في ذاتها وصولاً إلى البنية التي تتحرك فيها تلك الظاهرات والتي يمكن تسميتها “العقل البرجاوي”.
قبل أن أستعرض المظاهر الأساسية المشار إليها، لا بد لي من لفت النظر إلى أنني لا أدّعي هنا القيام بدراسة سوسيولوجية وافية حول المجتمع البرجاوي، بل إنني سأكتفي بعيّنات من الممارسة على جميع مستوياتها من أجل إثبات أن هناك بنية فكرية عريضة مفترضة، علينا وعيها ومحاولة تطويرها.
على هذا الأساس، سأبدأ بالمظاهر الاجتماعية. في هذا الإطار، إن أول ما يلفت النظر هو موضوع اللهجة البرجاوية المميزة، حيث أن البرجاوي يُعرَف من خلال لهجته أينما كان من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب اللبناني. وهذا الموضوع يشكل إحراجاً للشباب البرجاوي وخاصة عند الفتيات في المدارس والجامعات وأماكن العمل، حيث يجد البرجاوي صعوبة في الخروج عن عفويته في الحديث عندما يضطر للتحدث بلهجة “البيارتة”. وأنا أتساءل هنا عن السر في هذه اللهجة المميزة كما أتساءل إذا كان ممكناً تجميلها وضبطها وتطويرها تدريجياً بما يتلاءم مع أصول اللغة العربية من جهة، ومع اللهجة اللبنانية العامة من جهة أخرى.
أما النقطة الثانية في الوضع الاجتماعي فتتعلق بموضوع الفقر، حيث أن الغالبية العظمى من أهالي برجا تنتمي إلى الطبقة الفقيرة وهذا يظهر بوضوح من خلال طريقة العيش وطريقة البناء وغيرها من الإشارات.
أما بالنسبة للمظاهر الاقتصادية، فإن البارز في برجا، منذ زمن بعيد، الاعتماد على التجارة الصغيرة وخاصة تلك التي تعتمد على التجوال والخروج من البلدة. أضف إلى ذلك، الاعتماد على وظائف الدولة من جيش ودرك وأمن عام وجمارك وتعليم رسمي. هذا يعني أن الوضع الاقتصادي في برجا محكوم بهذه العلاقات حيث أنه جرت محاولات عديدة للإستثمار من قِبل بعض المتمولين القلائل وباءت بالفشل وذلك يعود برأيي إلى موقع برجا بين بيروت وصيدا. لذلك لم يكن بالإمكان حتى الآن إقامة دورة إقتصادية تجذب أبناء البلدة إليها.
أما على صعيد المظاهر النفسية، فيمكن رصد بعض مظاهر السلوك المشتركة لدى أبناء برجا، منها مثلاً الشعور بالإحراج إذا لم نقل بالخجل في موضوع اللهجة البرجاوية، ومنها السلوك الاستعراضي، حيث نجد الكثير من الناس عندنا يتصرفون في بعض الأمور حتى يراهم الآخرون ليس أكثر. هناك أيضاً ظاهرة بارزة في سلوك الكثير من الناس ألا وهي ظاهرة التقليد والغيرة. ومن الأشياء الجميلة عندنا، هناك ظاهرة المرح وروح النكتة المشهور بها أبناء برجا في كل مكان.
أما على صعيد مظاهر التربية والتعليم فهناك ما يفرح القلب خاصة بوجود تلك الرغبة العارمة بالعلم عند كل مستويات المجتمع البرجاوي؛ وهذه ظاهرة بارزة وواضحة وضوح الشمس. ولكن المشكلة تكمن في كيفية استثمار الشهادات العلمية التي يحصل عليها أبناء هذه البلدة في اتجاه خلق إطار جديد لتطوير بلدتهم مستفيدين من إنجازات سابقة في سبيل الانتقال إلى درجة أعلى في الانتماء إلى حركة التمدن والتطور العلمي والتقني في عصر العولمة وتحدياتها الجسيمة.
أما على صعيد السياسة، لا بد من الملاحظة بأن الوعي السياسي في برجا يتمتع بتاريخ عريق ولا أحد يمكنه الشك بدور برجا السياسي ولكن ما يهمني هنا ليس الدخول في تفاصيل الموزاييك السياسي، بل ما يهمني هو رصد مدى انتماء هذا الموزاييك إلى “العقل البرجاوي”؛ فبالرغم من تعدد الأحزاب السياسية ومن الانقسام السياسي حول قضايا مختلفة، فإني رصدت ظاهرة أساسية في الممارسة السياسية في برجا يتحرك في إطارها الوعي السياسي البرجاوي. هذه الظاهرة تتلخص في انتصار الروح الجمعية الكاسحة في المنعطفات القوية. فالروح الجمعية البرجاوية تتموّج على وتيرة حركة التاريخ الإقليمي وربما الكوني وهذا ما يجعلنا نعتقد بوجود “عقل برجاوي” بصفته مشاركاً جدلياً في العقل الكوني. أما الأمواج التي تموّجت في ركابها الروح البرجاوية الجمعية فهي: الموجة الناصرية والقومية العربية، الموجة الجنبلاطية، الموجة الشيوعية، وأخيراً الموجة الإسلامية. ولا بد من ملاحظة أن ظاهرة التموّج هذه جعلت الممارسة الديمقراطية في برجا تتم بشيء من الغرابة إذ أنه من الملاحظ عدم ظهور انقسامات حادة وصراعات دموية داخل البلدة وذلك بالرغم من تعدد الانتماءات السياسية. وهذا يجعلني أعتقد بأن الحس الديمقراطي الحقيقي الموجود عند أبناء برجا، يجعلهم يميلون إلى موجة معينة في لحظة سياسية تاريخية معينة، لشعورهم بأن ذلك ما يجب أن يكون في تلك اللحظة لتجنيب البلدة انقساماً حاداً. في الحقيقة، لا أدري كيف يوفِّق البرجاوي بين الحس الديمقراطي والروح الجمعية. هذا ما سنناقشه في مقال لاحق حول مفارقات “العقل البرجاوي”.
أما فيما يتعلق بالمظاهر الأخلاقية، فإنني ألاحظ بأن المجتمع البرجاوي كان وما يزال مسكوناً بالمبادئ الكبرى وعلى ذلك فإن السلوك البرجاوي يقوم دائماً على مبادئ أخلاقية معينة مستوحاة سواء من الدين أو من النظرة الإنسانية الشاملة؛ من هنا فإن روح المسالمة واحترام الإنسان تحكم ممارسات الإنسان البرجاوي.
وأخيراً، تلعب المظاهر الدينية دوراً مهماً جداً في الكشف عن بنية الفكر البرجاوي. لا ريب في أن الظاهرة الدينية تسود في برجا على مدار تاريخها وفي أن الدين الإسلامي كان وما يزال دليلها ومنارتها. ولكن هذا لم يمنع الانقسام في الرأي حول المسائل العامة في البلدة كما في الوطن بشكل عام. وهذا ما أدّى إلى جو من الحوار والتسامح أحياناً وإلى نوع من الصراع أحياناً أخرى. يبقى أن نقول أن الظاهرة الدينية في برجا تتحرك ضمن إطار الحس الديمقراطي البرجاوي وهي بقدر ما تبقى محافظة على هذا الحس بقدر ما تكون منتمية إلى “العقل البرجاوي”.
والآن دعونا نستنتج إذا كان لا بد من استنتاج. أقول، انطلاقاً من هذه الإشارات الموجزة أدّعي بأن المواطن البرجاوي محدَّد ببنية عقلانية معينة يتحرك في إطارها؛ وبكل تواضع حاولت في هذا المقال مساعدته على كشفها، وله أن يختار البقاء داخلها أو تطويرها أو تحطيمها، علماً أن تحطيم هذه البنية قد يبدو ممارسة لاعقلانية للعقل في الوقت الذي يمكن أن تكون هذه الممارسة فعلاً تراثياً بامتياز أي بالمعنى الإبداعي التأصيلي التأسيسي للتراث.
لقد قال سقراط:” أيها الإنسان إعرف نفسك” . نحن نقول: أيها البرجاوي إعرف نفسك وهذا يكفي لترتقي بها دائماً إلى الأمثل.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولاً إني أرى أن هذا المقال يحاكي المجتمع البرجاوي وليس عقله.
ثانياً إن موضوع اللهجة أخذ حيزاً يوحي إلى الحياء بها أو منها في هذا المقال، لكن في نفس المقال نجد أن الكاتب يقول : “أن البرجاوي يُعرَف من خلال لهجته أينما كان من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب اللبناني” إذاً إننا كبرجاويين لا نستطيع إعتبار لهجتنا إلا جزءاً لا يتجزأ من هويتنا، وكل من يخجل منها أو يشعر بإحراج إذا ما إستعمالها أمام الأخرين إنما هو ضعيف الشخصية أو لا يمتلك الثقة بالنفس.
شكراً يا أستاذ ربيع دمج على اهتمامك بهذا المقال وعلى هذا النقد. ولكني أود التوضيح بأنني لم أطلق أحكامأً بل حاولت أن أصف ما يظهر في المجتمع البرجاوي من مظاهر نفسية وأجتماعية وسياسية وأخلاقية تشكل في تركيب علاقاتها ما سميته “بالعقل البرجاوي”. أما بالنسبة إلى موضوع اللهجة البرجاوية فلم أقم سوى بوصف ما شعرته من خلال ملاحظتي للعديد من حالات الشباب البرجاوي أثناء حديثهم في مجتمعات خارج برجا. إن ذلك لا يدل على ضعف الشخصية كما تقول بل على وعي الذات وعلى محاولة التفاعل والتكيف مع الآخرين. أكرر شكري لك ولكل القراء.
أشكر الدكتور حسن منصور الحاج على هذا الرد الجميل.
وأكرر ما ورد في المقال : “أن البرجاوي يُعرَف من خلال لهجته أينما كان من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب اللبناني” لذا يجب الإعتزاز بها والحفاظ عليها.