أوّل لبنانية من برجا في مراكز التحقيق الإسرائيلية
كتبت فاطمة محمد حوحو : لم يدخل اسم نازك في سجلات مجلس الجنوب ، ولم يدوّن اسمها بين الأسيرات اللبنانيات مع العلم بأنها كانت أول امرأة لبنانية تدخل إلى مراكز قوات الإحتلال التي كان يعتقل داخلها الشباب لدى إجتياح لبنان ، حيث تتم التحقيقات الأولية وعمليات التعذيب ، قبل نقلهم إلى المعتقلات ومراكز التحقيق .
كانت مدينة صيدا الجنوبية محطة ساخنة . هناك في مبنى سرايا عاصمة الجنوب الذي احتله الجيش الإسرائيلي كانت تطلق الأوامر وتنطلق وحدات عسكرية لتطوّق القرى والمنازل الآمنة وتقتحم المجموعات العسكرية كل الحرمات .
كانت تنتزع الأب والأخ أو الزوج من حضن عائلته . وعندما يخيب حظ المجموعة في إعتقال ” المشبوه ” سواء كان مقاوماً أو أي فرد بريء أعطاهم عملاء الإحتلال اسمه ، لا تعود المجموعة إلا ومعها بديل ، طفلاً أو امرأة .
نازك دمج أولى الأسيرات اللبنانيات ، لم تعتقل الا نحو 48 ساعة ، لم يستطع الجنود الصهاينة تحمّل الضغوط التي واجهوها من قِبل الأهالي لإطلاقها ، خصوصاً أنها كانت حاملاً .
ولم تشف نازك غليل المحققين الذين كانوا يبحثون عن زوجها بتهمة إنتمائه إلى المقاومة ، بعد عملية عسكرية في وادي الزينة أسفرت عن مقتل 16 إسرائيلياً .
منفذو العملية كانوا شباناً من بلدات أقليم الخروب . عاشت قرى هذه المنطقة إثر العملية التي وقعت في 13 آذار 1983 أياماً صعبة مع المداهمات وحملات إذلال الناس ، وخلق أجواء بهدف الإرهاب والقضاء على معنويات السكان العالية لدى معرفتهم بخسائر جيش الإحتلال في هذه العملية .
كانت بلدة برجا إحدى القرى المقاومة ومن أوائل القرى المنتفضة في وجه الإحتلال . أهلها لم يخافوا ولم يسكتوا ، بل أعدوا العدة للمواجهة ، بالبيان والتظاهرة والنكتة ، فنشروا النكات عن الإسرائيليين كما انتشر شبابهم في الليالي خلف الصخور وفي الوديان ينقلون الأسلحة ويخبئونها ويستطلعون المواقع العسكرية ، وفي اللحظة المناسبة يهاجمون .
أما نساء برجا فلم يكونوا على حياد تماماً ولم يختبئن في المواجهات ، بل خرجن في التظاهرات وضربن العملاء ووزعن البيانات ضد الإحتلال وأطلقن دعوات للمقاومة ومقاطعة البضائع الإسرائيلية التي كانت تغرق الأسواق اللبنانية . وكنّ أيضاً ينقلن السلاح والعبوات الناسفة .
في ظل هذه الأجواء كانت نازك دمج امرأة متزوجة من أستاذ مدرسة معروف بانتمائه الوطني وهي طالبة في دار المعلمين انتظر تخرجها لتعمل في التدريس وأم لطفلين في ذلك الحين .
ولم تكن نازك امرأة محايدة ، بل كانت أيضاً تنتمي إلى حزب يساري وجدت فيه إمكان تحقيق تطلعاتها المستقبلية . ونتيجة وعيها السياسي استطاعت التصرف بحنكة في قضية عملية ” وادي الزينة ” .
تروي نازك : ” عندما حصلت العملية كنت أتوقع أن يداهم الإسرائيليون منزلنا ، حسبت أن الأمر سيحصل ، فقد شنّوا حملة مداهمات واسعة في البلدة واعتقلوا بعض الشبان ، ليلة 15 آذار 1983 .
كانت ابنتي راغدة في الشهر الثامن من عمرها ، أعطيتها قنينة الحليب وتركتها تنام بجانبي في السرير . في الساعة الواحدة والنصف ، قلت : إنهم لم يأتوا ، وضعت راغدة في سريرها ، وعدت إلى سريري . لم يكن كمال زوجي ينام في البيت طبعاً ، ذلك ضمن الإحتياطات الأمنية التي كان يأخذها . قرعوا باب المنزل . لم أسمع ، دخلوا إلى البيت من دون أن أشعر بهم . دخل صهر زوج أختي وأيقظني : ” نازك قومي ، جاء الإسرائيليون ليسألوا عن كمال ” . نهضت وأنا في حالة هلع ، أشار صهري إليّ بألاّ أتكلم .
في تلك اللحظات ، فكرت بما يجب أن أقوله لهم . بدأ التحقيق معي وأجبتهم على أسئلتهم التي تتكرر وتتكرر في محاولة منهم لإيقاعي . قلت لهم : أن كمال ليس موجوداً في المنزل . أنا كنت في صيدا وعدت في الساعة الرابعة ولم أجده . سألت عنه فقالوا لي : تغدى وذهب إلى الجامعة في بيروت . قالوا لي أنهم ذهبوا إلى المدرسة صباحاً ولم يجدوه وإنهم يريدون معرفة المكان الذي يختبىء به .
ووسط التهديد الذي لم ينفع معي ، بدأ أحدهم أقل حدة قائلاً : إذا قلت لنا عن مكان وجوده نعدك بأنه سيذهب بكرامة ويعود بكرامة ، لكنني رفضت تصديقه وأصررت على كلامي ، لكن أختي تدخلت وقالت لهم : إذا أردتم كمال فهو أستاذ مدرسة ، وكل يوم الساعة الثامنة يبدأ دوامه .
ضربت أختي برجلي طالبة منها عدم التدخل إذ خفت من تناقض كلامنا معهم . تضيف نازك : عندما لم يجدوا شيئاً يستفيدون منه طلبوا مني إرتداء ثيابي وكنت ما زلت في ثوب النوم لأنهم يريدون أخذي للتحقيق معي .
غيّرت ملابسي ورفض صهري أن أذهب معهم بمفردي . سرعان ما صعد إلى منزله الكائن في الطابق العلوي لمنزلنا ، ولبس ثيابه ورافقني . قبّلت راغدة وهي نائمة وأعطيتها لأختي كي تهتم بها وكذلك ابني .
علمت فيما بعد أن كمال جاء إلى المنزل في السابعة والنصف صباحاً . لم يكن عنده تعليم في الساعة الأولى ، لديه ساعة فراغ فقرر أن يأتي إلى المنزل ، من دون أن يعلم أن الإسرائيليين اقتحموا المدرسة التي يعمل فيها . أما أهالي الحيّ الذين شاهدوه فطلبوا منه عدم إكمال سيره نحو المنزل وعدم الذهاب إلى المدرسة كذلك . نصحوه بقولهم : ” الجماعة قتل منهم 16 عنصراً إذا علقت بين أيديهم ، راحت عليك ” ، تكررت هذه الجملة واندفع كمال نحو أحد المنازل الآمنة ، ثم استطاع الهرب من الإسرائيليين إلى خارج المنطقة .
وتتابع نازك : صهري كان خائفاً . هددوه بنسف المنزل ، إذا لم أرافقهم إلى صيدا . كان علّي أن أفكر بالجميع في تلك اللحظة ، زوجي ، أختي وصهري وأولادي والشباب .
ذهبت معهم ، وضعوني بجيب عسكري . لم أسمح لهم بأن يدفشوني إلى داخله ، لكن أختي جميلة لم تتحمل المشهد فاقتربت من الضابط وأمسكت به صارخة ” هذه امرأة إلى أين تأخذونها ؟ اذهبوا وابحثوا عن زوجها وخذوه ” ، وبعد أن فشلت في الحصول على رد قالت لهم : ” خذوني معها ” وبالطبع لم يردوا عليها ، وانسحبت القوة العسكرية نحو سرايا صيدا .
ما الذي حصل هناك : تحقيق جديد وترغيب وترهيب ، هكذا تختصر نازك الحالة وتشرح : ” رآني الميجر الإسرائيلي فقال : لماذا لم تعترفي ، لو اعترفت لما أحضرناك إلى هنا ” . ذكروا كلاماً محرفاً لما قلته في المنزل ، لكني أصررت على الكلام نفسه واتهمتهم بتلفيق الأكاذيب ، حين ادعوا أنهم حصلوا على بعض المعلومات عن زوجي وتحرك الشباب ، من العملاء . بعض فاعليات البلدة كان يريد أن أخرج من محنتي فاتجه نحو عميلين وطلب إليهما التدخل من أجل الإفراج عني لأنني امرأة والمرأة يجب أن تكون في منزلها وإلى جانب أولادها .
بالطبع لم أكن أريد أن تحصل هذه الإتصالات بالعملاء ، خصوصاً أنهم تسببوا بالكثير من الأحداث التي أدت إلى إرسال نحو 400 شاب من البلدة إلى معتقل أنصار . وكنت قد اطمأننت إلى خروج كمال من البلدة بخير ، ولم يعد هناك شيء يهمني وبإمكاني التصرف مع الإسرائيليين .
لكن حادثة إعتقالي كانت سابقة في البلدة في معظم المناطق المحتلة ، والتعاطي مع مسألة إعتقال النساء هو على أساس أنها ” مس بالمحرمات ” ، كانت تحرّض مشاعر الناس العاديين .
البلدة كانت تغلي بحسب التعبير الشائع ، في ذلك الوقت . أما أنا فكنت أجلس في غرفة فيها طاولة وكرسي واحد .
مرّ الوقت ، بطيئاً ، الساعة السابعة مساءً عرفت أنهم لن يطلقوني وإنني سأبقى رهينة حتى يأتي زوجي ويسلّم نفسه .
أحضروا لي طعاماً فرفضته. قلت : لن آكل وأولادي من دون طعام لا أمهم بجانبهم ولا أبوهم أيضاً ، فرد عليّ أحد الجنود ” الصبي الكبير يطعم الولد الصغير ” ، أجبته أن طفلي الكبير عمره سنتان وأخته عمرها ثمانية اشهر .
في ساعة متأخرة من الليل أحضروا لي فراش إسفن وحراماً وطلبوا أن أنام ، قلت : لن أنام ، فكان ردّ أحدهم اذا لم تنمي ، سأضطر لإبقاء جندي معك في الغرفة .
قلت في نفسي : يا رب السترة ، وصرخت به : إذهب من هنا ، تمددت على الفراش ووضعت معطفي تحت رأسي وتغطيت بالحرام ، لكنني بالطبع لم أنم . سمعت أذان الصباح ، قلت ربما جاء الفرج . ارتديت معطفي وجلست .أقفلوا عليّ الباب ، أحضروا لي طعام الصباح ، لكنني رفضته ، فتحت الباب وصرخت أريد أن أرى الميجر ، عليّ الذهاب إلى أولادي ، لكن لا جواب .
وتتابع نازك روايتها : في الثانية والنصف بعد الظهر سمعت صوت مختار برجا ، أحسست بالفرح . قلت ربما هناك تحرك لإخراجي من هنا ، لكن سمعت صوت المختار يقول: يعني أذهب وأقول لأهلها إن عليكم تسليم زوجها ؟ عندما سمعت هذه الجملة عرفت أن المختار خائف ولا يستطيع مواجهتهم حتى إنه لم يقل إنها أم لطفلين صغيرين .
حضر أحد المحقيين فأصررت على الكلام نفسه ، لكنني هذه المرة اعترفت لهذا المحقق بأنني حامل وأن لدي ورقة من الطبيب . كأن المحقق أصابه مس لدى سماعه أنني حامل ، فصرخ : ” يلا ، برّا ، روحي عالبيت ” . كانت المسألة سهلة .
خرجت وذهبت إلى البلدة كانت الساعة تقارب الخامسة بعد الظهر . خارج السرايا كان أهلي بالإنتظار وأعداد من المحبين وعشرات السيارات .
عندما دخلنا إلى برجا بدأت السيارات بإطلاق الزمامير ، وخرجت النساء لترمي على رأسي الأرز . تدفق المئات إلى ساحة البلدة وتخلّص الأهالي من خوفهم . حملوا الزهور وأحضروا الطبل والناي . عزفوا ودبكوا وزغردت النساء ورافقوني إلى منزلي مشياً . كانت تلك إنتفاضة فرح ضد الإحتلال .
وعن شعورها تجاه ما حصل تقول نازك : كنت سعيدة لأنني أخرجت زوجي من المأزق ، كذلك كنت مرتاحة لأنني في مركز التحقيق إلتقيت عدداً من الشبان المعتقلين الذين كنت أعرفهم وتصرفت على أساس أنني لا أعرف منهم أحداً ، حتى لا أتورط ويتورطون هم في التحقيق .
ما حدث كان اختباراً بالنسبة إليّ . تأملت كثيراً في وجوههم لأن رؤوسهم كانت معبأة بأكياس . كانوا من كثرة الضرب والتعذيب لا يستطيعون جرّ أجسادهم المنهارة إلى الحمام ، ورأيت شباناً منهم ينقلون الحجارة والمياه في إحدى باحات السرايا .
لم تطوّر نازك التي أصبحت رمزاً وطنياً في البلدة ، نشاطها السياسي ، بعد إنحسار العمل الحزبي وسقوط الأوهام والأحلام وصعود قوى سياسية جديدة تغلغلت في أوساط الجيل الجديد . كما أن التقاليد والعادات بحسب قولها تحول دون مشاركة النساء في مواقع حساسة ، فليس هناك إعتراف بقدراتهن وطاقاتهن ولا أحد يشجع النساء في منطقتنا على الخروج من الشرنقة .
تعمل نازك حالياً معلمة في مدرسة برجا الرسمية للصبيان . تراهن على دورها التربوي ، لكنها لا تبدو طموحة إلى تطوير تجربتها النضالية .