أبو قدري سعد وزمور زعتر بزيت
كتب د . محمد عبد السلام الزعرت : أبو قدري … نور يزبك ، والاسم الحقيقي نور الدين يزبك سعد هو نفسه فيلسوف بلدتي برجا ، الفيلسوف الشعبي في مرحلة ما قبل الحرب العالمية وما بعدها حتى وفاته .
والكتابة عن ” أبو قدري ” بالنسبة لي هي من الصعوبة بمكان تشبه الصعوبة التي تعتري الطبيب الجراح لدى اجرائه عملية جراحية لمن يحب ، فإذا تجرد من عواطفه تعرض للخطأ ، وإذا سيطرت عليه عواطفه ازداد هذا الخطأ .
وشهرة أبو قدري لا تنبع من اختياره اسماً فلسفياً لم يسبقه إليه أحد في برجا كما اعتقد ” قدري ” ايماناً بقضاء الله وقدره ، بل تنبع إلى جانب ذلك من المكونات الجسدية والنفسية الفكرية لهذا الرجل .
هذه الصفات والمواصفات جعلت منه شخصية من الصعب ، وربما من المستحيل ان تتكرر لا في بلدتي برجا ولا في غيرها من القرى المجاورة . فأبرع علماء الهندسة التصويرية غير قادرين على رسم مقاطعه ومساقطه الطولية والعرضية .
جسم مربوع على قصر ، بنية قوية كجذع السنديانة ، عضلات مجدولة ، صلعة واضحة كشروق الشمس في الصيف ، رقبة غارقة تحمل رأساً مليئاً بالأفكار والنهفات ، خصر عريض مبروم يكاد محيطه يفوق طول قامة حامله .
لكنه فريد العصر … مسبع الكارات ، عديد الأختراعات ، مهضوم الحركات ، عريق الحياكة ، فيلسوف مغمور ، تقدمي مشهور ، طينة من الحرير ، لم يتعلم إلا لماما .
تلقى مبادئ القراءة والكتابة في أحد كتاتيب الشيخ محمود أو يوسف زين ، لكنه كان يستوعب أصعب المعادلات العلمية والمبادئ الفلسفية والدينية .
تزوج نور سعد من قريبته سليمة ابنة عبد السلام سعد الذي عرف ” بالسراج ” والذي قذفت به الأقدار إلى الهجرة إلى إمارة شرق الأردن ، حيث تعددت الاهتمامات والزوجات وتوسعت التجارة والأعمال وكبرت العائلة بحيث أصبح لأم قدري أْعداد كبيرة من الأخوة والأخوات ، عاد إلى برجا منهم عدد قليل ، منهنّ زوجة راتب سعد ، وزوجة محمد عبد الرؤوف سعد .
لنعد إلى أبو قدري …
المثل يقول : مصائب قوم عند قوم فوائد … فالهزّة الأرضية التي ضربت برجا والاقليم عام 56 هجّرت أبا قدري من بيته في حارة العين إلى عند عمي الشيخ ( أْحمد الزعرت ) أبو شقرا ، وهكذا تفتحت عيناي عام 57 على جار جديد اسمه أبو قدري ، وكنت يومها في صف البريفيه .
كانت العائلة تسكن في البيت الأرضي عند الشيخ أبو شقرا وهي عبارة عن غرفتين وحمام وبئر مياه ” جمع ” للمياه الشتوية والاستعمال المنزلي .
أما العائلة فكانت مؤلفة من أربعة أو خمسة ، ثم ما لبثت ان كبرت وفاقت عن العشرة (بعيون الشيطان) كانت العائلة مؤلفة من البكر قدري وأْخته الهام وأحمد وشقيقة ثانية أو ثالثة … لم أعد أذكر .
لم يستطع أبو قدري أْن يمارس كامل حرّياته ، بوجود الشيخ أحمد ، فالإثنان حبيبان لدودان ولكل منهما حدوده في التعامل والمعاملة ، هناك ” خطوط حمرا ” لايُسمح بتجاوزها ، احترام متبادل ” ويا جاري انت بحالك وأنا بحالي ” .
مشكلة المشاكل عند أبو قدري كانت العشق الغريب للبارود ، والتي ورثه عنه ولده الثاني أحمد بتفوق نادر ، وأحمد بقدر ما كن يعشق البارودة ” والقواص” أي الصيد كان يكره المدرسة والعلم اللذين كان يعبدهما أبو قدري .
وأبو قدري مضطر يومياً للذهاب من البيت إلى النول في حارة العين لينسج عدداً من الشراشف أو المناشف أو قطع الحرير ، ثم هو إلى جانب ذلك ملزم بمراقبة العائلة ، فكبيرهم كان ابن 14 أو 15 سنة ، أما أحمد فكان قد بلغ الثانية عشرة .
قدري صياد قدير ، ولكنه كان يحترم رغبة ورأي والده لحبه العلم والمدرسة ، أما أحمد فهو مشاغب عنيد ” دينو ومعبودو” الخردق والكلورات والكبسون ، حتى أنه كان يحمل البارودة معه إلى المدرسة ويخبأها في مكان ما .
وما أن يقرع جرس الساعة الرابعة بعد الظهر ايذاناً ” بالفلة ” حتى يكون أحمد قد وصل الساعة الرابعة والربع إلى عين الجديدة ، يلاحق التيان والأبو زريق والبوبانة والحمرة ، ويعود مساءً حاملاً معه ” مشكاك ” من العصافير ، وعندما يراه أبو قدري كان ” يولع ” كالبارود ويبدأ أبو قدري سيلاً من التراتيل المعتادة ، كانت معظمها تسمع في قاطع بعاصير المحاذي .
ولكن السهرات الليلية مع أبو قدري كانت تجمع ثالوثاً عجيباً غريباً جمعته في فترة زمنية ، الصدفة وكان مؤلفاً من أبو قدري ، وعبد السلام الأمين ، وطالب البريفيه آنذاك ، وكان ينضم إلى هذا الثالوت ، سميح ، مصباح ، أبو العبد وغيرهم .
تشاء الصدف والمقادير أْن يقسو الدهر على عبد السلام الأمين فيترك بيته في الفتيحات ، بعد أْن يجبر على ترك سلك الدرك عقاباً له على أفكاره التقدمية الأشتراكية ، فيستأجر له بيتاً عند سعيد خليلة (الدقدوقي) على طريق بعاصير عين الجديدة بالقرب من نجاصة نعوم تجاه كرم خشافة وزوجته خنزادة ، ثم يشتري عدداً من رؤوس الأبقار ويستأجر ” ياخوراً ” او ماخوراً في بيت قديم تملكه شقيقة خوجية البراج ” نبيهة ” ، عند بيت أحمد بشاشة القريب من بيت عبد الغني سعد ، حيث اليوم بناية عبدو أْدال .
السهرة كانت تتميز بالشاي ” الماركسي ” والدخان العربي الفلت وأحاديث السياسة والدين والفلسفة .
أبو قدري وأبو محمد (عبد السلام) لم يتخاصما ولا مرة لكنهما لم يتفقا أبداً ، وانفجر الخلاف الأخوي بينهما عندما رزق عبد السلام بولده الرابع وأطلق عليه اسم ” الياس ” تحفظت أم محمد على الأسم ، تضامن معها أبو قدري ، أصرّ عبد السلام ” فالياس ” اسم نبي وهو أي أبو محمد ليس طائفياً ، وقد نجح في رأيه حتى تحقق له ما أراد ، وأصبح الياس الدكتور الياس .
وكان أبو قدري يستعمل محطات كلام أو عكاكيز اللغة والكلام والحديث وهي محطات كلام ، الغاية منها تقوية مضمون الحديث وجلب اهتمام المستمع ، ومن هذه المحطات قوله : سامع يا سيدي ، فاهم مني كيف ، عليّ النعمة ، برحمة أبوك ، صلّي عا النبي يا زلمي ، طول بالك عليّ شوي ، خدني بحلمك ، وعشرات وغيرها .
إلا أن حكايات أبو قدري واختراعاته كانت الشغل الشاغل لجيل كامل ولعشرات السنين حتى قبل وفاته بقليل وقد تناقلها عنه بعض أولاده وان بصورة غير كاملة .
من أهم حكايات أبو قدري حكاية المكوك وواوي الشيخ محمود وزمور الزعتر وغيرها والصحون الطائرة وغيرها كثير .
أما الاختراعات فإن اختراع ال.ت.إن.ت. وتنفيذ الاختراع كان قد يؤدي به إلى السجن والصحون الطائرة الحارقة وضرب الابرة في العين .
كان يعتمد أبو قدري على المطالعة ، وعندما يجد نفسه محشوراً في عدم فهم بعض المعادلات العلمية وخاصة الكيميائية والفيزيائية كان يلجأ إلى طالب البكالوريا العلمية آنذاك يونس الخطيب ، فيشرح له يونس ، وأبو قدري ينفذ .
توصل إلى صنع الديناميت ، وكانت فترة الحرب العالمية الثانية وممنوع اشعال المتفجرات ، خاصة في صيد الأسماك وتفجير الصخور ، أي استعمال البارود الأسود واستعمال ال.ت.إن.ت. الذي يلزمه كبسولة .
توصل أبو قدري إلى المعادلة وانفجر الخليط صدفة ، على قهوة محمد ديب حوا ، قرب ساحة العين ، ووصل الخبر إلى مخفر السعديات فجاءت دورية لمعرفة حقيقة الانفجار ولكن أبو قدري كان قد وصل إلى عين الجديدة متظاهراً رفع الاثقال مع نسيبه محمد توفيق في حرش بعاصير بالقرب من نقبة بديعة وبستان محمد بو علوم ، يرافقهما الصديق المشترك بهاء الخطيب .
ضمت المدرسة التكميلية الرسمية في برجا خاصة بعد انشاء صف البريفيه في الخمسينات ضمت عدداً لا بأس به من المعلمين من القرى المجاورة وخاصة من شحيم وكترمايا والجية ، وكان على رأس هؤلاء ابراهيم عبد الملك الذي أصبح مواطناً برجاوياً بامتياز ، وكان يعلم الكثير من المواد وبرع في التاريخ حكايات وسرداً وترغيباً وتشويقاً .
أبو قدري بعد الهزة الأرضية أصبح جاراً للمدرستين مدرسة الصبيان ومدرسة البنات ، وقد لاحظ أْن بعض أولاده يكثرون عند طلب الترويقة من والدتهم أم قدري يكثرون ويصرون على طلب ” زمور بزعتر” .
الترويقة ” زعتر وزيت ” والزمور هي الكلمة الشعبية التي تعني ” المزمار ” أو العروس كما يلقبونها تلطيفاً ومداعبة ، أو سندويش كما يحلو للمتفرنجين تسميتها ، فالخبز المرقوق على طراوته ، خاصة إذا كان ساخناً على الصّاج يلتف على نفسه ليصبح كالبوق أو الزمور أو المنجيرة .
والزعتر موجود بكثرة في حقول برجا ، من أْراضي أبو ياسين البراج في عين الجديدة إلى ضهر المرج عند أبو حسن غصن ومرابع البرجين وتلال بعاصير .
حاول أبو قدري أْن يعرف سبب إلحاح أبنائه على طلب زمور بزعتر فأستدعى أحد أْبنائه وسأله فجاء الجواب ببراءة وصراحة :
” الأستاذ ابراهيم قال لنا : ان الزعتر يقوّي الذاكرة ” الأستاذ ابراهيم يعني ما غيرو ، ابراهيم عبد الملك ، هاها نقشت !! صفن أبو قدري وقال في نفسه : ” اجت والله جابها ” جالت في رأس أبو قدري أفكار غريبة عجيبة ، ابتداءً من رأس المال حتى كتب خالد محمد خالد ، والقرآن الكريم ، وقرر أْنه يجب وضع الأمور في نصابها مع الأْستاذ ابراهيم ومن هم وراءه في الادارة والوزارة ، ومهما كلّف الأمر ، انها ثورة حتى النصر ، ثورة على المفاهيم البالية ، ” وعلى زمور بزعتر ” .
قرر أبو قدري القيام بالهجوم المضاد ، ورسم خطة محكمة وبدأ التنفيذ ، أقام حاجزاً طياراً على بوابة المدرسة بالقرب من المدخل الرئيسي عند بوابة أْم يونس الخطيب حيث كانت دكانة أبو سمير شبو ، مترس هناك في الثامنة إلا ربعاً من صباح أحد الأيام وانتظر .
بيت الأْستاذ لا يبعد سوى دقائق معدودة سيراً على الأقدام عن بوابة المدرسة ، وهو يحضر كل يوم مدرسي حوالي الثامنة إلا عشر دقائق ، أْطلّ الاستاذ ابراهيم ووصل إلى حيث ينتظر أبو قدري ودار بينهما الحوار التالي بلا دستور ولا حاضور :
صباح الخير أْستاذ ابراهيم .
أهلاً أبو قدري .
بتسمح تعطيني من وقتك خمس دقائق .
تفضل ( ظن الأستاذ ابراهيم أْن أحد أبناء أبو قدري نال علامة واطية بالتاريخ ) .
أْنت بتقول للطلاب : كلو زيت وزعتر لأنو الزعتر بقوي الذاكرة .
شو فيها يا أبو قدري ، كل الناس صارت عارفة أْنو الزعتر مفيد وهذا أمر متعارف عليه ومفروغ منه .
شوف يا سيدي ، العلم بيقول أْنو العسل والزبدة والحليب والبيض هي مواد كاملة الغذاء ، وكذلك الفواكه الطازجة والخضار ، ومين قال انو اللحمة الطازجة لا تقوي الجسم والعضل والعقل والذاكرة ؟ … ثم يتابع : ليش التفاح والموز والنجاص من شو بيشكوا ؟ ثم تابع متسائلاً : مين قال كلوا من طيبات ما رزقناكم ؟! كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون ؟! ومين ذكر فوائد العسل ، ومين وعد بأنهار من عسل ولبن وغيرو ، شو انتو يا أءستاذ ابراهيم بهالمدرسة أفهم منو (سبحانه وتعالى ) .
أنا متأكد انكم بدكم تخلو الولاد ينسوا أنو في طبقات بتاكل الطيبات ، والنلس المعتّرة مش لازم تاكل حتى تضل ساكتة و ” ساده بوزا “عن الوضع المعيشي المتردي مثل الزفت الردي .
الكبة النية أو الكبة بالصينية ، مش أغنى بالفيتامينات من الزعتر؟! المعلاق والسودا نظيفة وطازة ” مضرة ” ؟ كويسة ورخيصة وبنت ناس ولو بالشهر مرة ، من عند محمد السوداني أو من عند أبو حسين رمضان ، إذا تروق الولد منها بتعملوا دخلك مغص ؟ بتعملوا امساك ؟ أو بتتلبك معدتو ؟! قلي يا أستاذ .
شوف يا أبو أحمد أْنا متأكد أنو رائحة اللحمة المشوية (شوي مدهنة) أشرف وأحسن من ريحة ” الريف دور وعطر سوار دي باري ” وهي أجمل من كل الروائح التي يرسلها لنا الاستعمار الفرنسي والانكليزي وتوابعهم .
ترويقة صحن فول من عند عبد الله الطنطوري مثلاً وترويقة رز بحليب أو سحلب من عند خيك ” الحنون ” أبو العبد بتعمل اسهال ؟! بتعمل مغص بالمصارين ؟! أو قرحة ؟!
المجدرة فهمنا (الله يبعد عنكم الجدري) ، المدردرة مع صحن سلطة وبصله خضرا (الله لا يسلط عليكم لا وزير أو مدير ظالم) ، العدس كلو حديد ، والبرغل ” مسامير الركب ” بس بترجاك زيحوا شوي عن الزعتر ، الزعتر على راسي وعيني ، مرة مرتين بالأْسبوع ، كل يوم ، كل يوم صبح وضهر وعشية ؟! الولاد تعقدوا ، شفلي يا أْستاذ شي آية بالقرآن بتحكي عن الزعتر والسمسم والسماق ، هل قرأت شي آية بتقول ” كلو من زعترات حقولكم ” لأ ، بس القصة يا أستاذ ابراهيم ، يتابع أبو قدري : أنو وزارتكم بدها تعلم الولاد ” التنبلة ” وقلة الخاصية والكسل ، والاستعمار يا سيدي (يمسح فمه بكفه) الاستعمار فتتنا وشتتنا ، وحرق بترولنا وناوي يحرق ديننا ، وزارة التربية عندكم صار لازمها تربية ، واعادة نظر بالبرامج ، كل البرامج .
الاستاذ ابراهيم يبتسم وهو يستمع ، قاربت الساعة الثامنة ، يصافح أبو قدري ويقول : مثل ما بدك بيصير يا أبو قدري ، تحت أمرك .
يتابع أبو قدري مشواره نحو الدكان – النول – منتصب القامة المبرومة ، التي تغرق في صحن صيني كما كان يصفها بنفسه … المرجع : مجلة برجا التراث العدد السادس 2002 .