أول حاضنة إصطناعية للصيصان
كتب د . لطفي سليمان المعوش : كان يجلس مع رفقائه حول إبريق الشاي ، يتشاركون هموم مهنة الحياكة ، ويرشف من كوبه ثم يمج سيجارته وينفث دخانها بتوتر وكأنه يحمل هموم الدنيا على كتفيه ، وكان منذ أيام يتهرب من دعوة الرفقاء إلى زيارته ، فالحظر دخل حيز التنفيذ منذ بدأ بإجراء تجاربه ، وقد حذر والدته بأن تكتم أي حديث عما يجري في الحاكورة . فالأصدقاء أخذوا يتساءلون عما يجري ؟ ماذا حدث لأمين عنبرة – أمين سليم المعوش – ؟ ولماذا تغيّر ؟ ولكن الستار الحديدي الذي أقامه كان كفيلاً بعدم إعطاء أية معلومة عما يجري في المسقى .
وبالرغم من ” توصاية ” الصندوق الخشبي – مجال التجربة – عند خالد عبد القادر سعيفان – القاضي – أصبحت جاهزة بعد يومين ، لانشغاله كثيراً بصنع ” باترينة ” لفتاة مستعجلة بدها تتجوز ، إلاّ أنه كرّم جاره ، وقام بإعداد صندوق خشبي حسب المواصفات المطلوبة .
هذا الصندوق يمكنه أن يستوعب عشر بيضات ويضمن التهوية والحرارة في آن واحد . فرش قعره بالتبن ثم وضع البيض فوقه ووضع داخل الصندوق ” ضو كاز نمرو 3 ” ولم ينسَ ميزان الحرارة ” ترمومتر ” لحرصه على قياس درجة الحرارة داخل الصندوق .
وهكذا انفصل عن رفقة الحياكين لأكثر من عشرين يوماً ، ليجلس متأملاً لوقت طويل بانتظار أن يسمع ” فقس ” أول بيضة ، ولكن دون نتيجة إيجابية .
وبعد أن أكدت مستشارته ” والدته ” –عنبرة إبراهيم عزام 1892-1971 – بأن الوقت فات لخروج الصيصان ، أخذ بيضة من الصندوق وكسرها برفق ، فوجد بداخلها صوصاً ميتاً .
أخذ يفكّر ملياً بالنتيجة وفشل تجربته ، فتبين له أن السبب يكمن في عدم تحريك البيض ، لأن الدجاحة تميل على البيض فتتوزع الحرارة على البيض من كل جهاته .
قام باستبدال البيض وبدأ يتلافى التقصير الذي لحق بالتجربة الأولى على غرار ” القرقة ” وبعد الفترة المحددة ” 21 يوماً ” وأثناء المراقبة الليلية حدثت المعجزة وبدأ يهرول ويصرخ ” قومي يا عنبرة نجحت بالمية مية “. ” الله أكبر ،خاف ربك ” ، وأنتشرت الأخبار ووصلت إلى ” الشلة ” .
وكشف أسراره أمام ” أبي قدري” – نور الدين سعد 1915-1990 – الذي حاول إدخال التكنولوجيا إلى العملية . فاقترح أستبدال ” الضو” بأنابيب المياه الساخنة . فطلب أمين 1929 – 2004 من جاره كامل الفلسطيني أن يقوم بتلحيم الأنابيب لإدخالها الصندوق وضخها بالمياه ومن ثم تعريضها لحرارة ” بابور الكاز ” في الخارج لتحمية المياه في الأنابيب .
ولكن الفترة الزمنية التي يتطلبها تزويد ” البابور” بالكاز كانت تؤدي إلى إنخفاض درجة الحرارة في الصندوق وبالتالي عدم الوصول إلى النتيجة المطلوبة .
ومهما يكن فإن محاولة إيجاد ” حاضنة صناعية للصيصان ” منذ ما يزيد عن الخمسين سنة ، فإنها تدل سواء من حيث ماديتها أو من حيث صنعها ، على درجة من المقدرة العقلية في إستخراج موارد الطبيعة وتطويعها للحاجات الإنسانية ، كما انها من حيث شكلها تمثل مظهراً من مظاهر التعبير الفني ، حتى لتخرج في بعض الأحيان عن أن تكون مجرد آلة للإستعمال وتغدو تحفة فنية .
وأخيراً نجدها من حيث طرق إستعمالها داخل كل بيت مظهراً من مظاهر التقدم العلمي ، يمكن تصنيفها إلى جانب صناعة النسيج البرجاوي المشهورة .