شحّود ومرتو … حكاية مثيرة !!!
شحّود لقب عرف به درويش يقظان 1862-1939 والدته خديجة معاد ، إبن محمد يقظان الملقب بـ الديَديْس ، زوجته سعدى محمود يقظان 1882-1939 , المعروفة بسعدى بانه وكنيته : أبو مرعي .
شحّود فلاح من ضيعتي بسيط ، طيب القلب ، على بركات الله ، عمّر الإيمان قلبه وملأ جوانب نفسه .
حافظ على الصلوات الخمس في البيت وفي الحقل ، ولكنه كان لكبر سنه وضعف بصره ، إذا توضأ ، نسي غسل رجليه إلى الكعبين ، وإذا قام إلى الصلاة وقف بخشوع يدعو ربه خوفاً وطمعاً .
ألاّ أنه كان في بعض الأحيان يخطئ التوجّه إلى القبلة ، فيتوجّه إلى الغرب تارة وإلى الشرق تارة أخرى ، لكن بعض الناس من المتطفلين والفضوليين يراقبون هؤلاء البسطاء ويتتبعون تصرفاتهم ، ويشيعونها بين الناس على سبيل المزاح والسخرية .
فكم من مرة سمعناهم يقولون لمن لا يحسن الوضوء ولا يحسن غسل رجليه : ” وضوؤك مثل وضوء شحود ” . فمن دلائل إيمانه ، أنه رأى في المنام أنه في الجنة ، جالساً تحت شجرة ظليلة وأمامه عين جارية ، فتوضأ وصلى ركعتين لله تعالى ، وما كاد يفرغ من صلاته حتى أْيقظته أم مرعي لصلاة الفجر ، فاستيقظ من نومه وقصّ عليها رؤياه مستبشراً فرحاً .
آمن شحّود بالأرض فزرع السليخ في المحوّطات قمحاً وشعيراً وعدساً ، فكانت غلاله مؤونة لعياله ، وعلفاً لدوابه وأنعامه , ونقب قسما من أملاكه في الروس في خلّة فرج ( عند نبيل بهيج الخطيب في اْعالي برجا ) وفي الدحدحين وغرس فيها أشجار التين والعنب حتى أصبحت كروماً غنية تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها .
فإذا ما أقبل الصباح وبدأ الحصاد ، حضر شحّود وعائلته إلى الروس فضرب له خيمة من أغصان الشجر ، وكسا سقفها وجوانبها بالوزال والخروب البرّي ، ودلّك أرضها ومرحها بطبقة من الطين ، وعلى بُعد خطوات من الخيمة ، سوّى الأرض ونظفها من الحصى والأشواك ثم عمّر المسطاح وسيجه بالبلان والقندول ، وفرش أرضه بالوزال والغار والشومار , يساعده في ذلك ولداه مرعي 1904 -1955 ومحمد 1910-1978 الملقب بالحنتيت ، وأما تطيين أرض الخيمة ومعالف الأبقار ، فهذه مهمة زوجته (سعدى بانه ) وأزواج أولاده ( سعديّة وتاج ) .
الخيمة منتصبة على الشوار المطل على الخندق حيث مرابط الأبقار تحت شجرة المشمش الباسقة التي تغطي أغصانها معظم الخندق ، ووراء الأبقار أوعية مليئة بالماء ، وضعت عند جذع التينة الكبيرة التي تلامس أغصانها أغصان شجرة المشمش المشهورة .
بدأ الحصاد وخرج الحاصدون إلى الحقول ، في حرّ الهاجرة ، في حرّ تموز ، وفيه يغلي الماء في الكوز ، وتمر الأيام ويوشك تموز أن ينتهي ، وينتهي الفلاحون من الحصاد ، ولايبقى في الحقل سوى حصاد واحد ، إنه شحّود ، لقد تأخر عن الركب ، وبقي أمامه عدّة أيام .
أكداس القش تملأ جنبات بيادر الروس ، والفلاحون باشروا العمل ( بالدريسة ) ، ويوم علموا أن شحّود قد إنتهى من الحصيدة إتفقوا على أن يستقبلوه ساعة وصوله إلى البيادر بإحتفال ومهرجان ضاحك بمناسبة فراغه من الحصاد .
وفي اليوم الذي رجع فيه شحّود ، عائداً إلى الروس ، إحتشد البيادرية على الجانبين وكأنهم جنود تأهبوا لإستقبال فاتح عظيم .
هذا يحمل المدراية وذاك يحمل العتراية وهؤلاء يرفعون الغرابيل والمسارد على رؤوس القضبان .
وفي جانب آخر شخص يرفع البلاّنة وآخر يرفع الجارورة , حتى إن أحدهم كان يرفع القحف الذي يتلقى به روث البقر ، على رأس المسّاس ، ولدى وصول الموكب ، إستعدّ الجميع لمراسم الإستقبال .
يتقدّم الموكب العجول والأبقار ، يسوقها أبو مرعي ، وخلفه زوجته أم مرعي ، على رأسها غمر من الزعتر ، وتحت إبطها دويك الماء ، ثم مرعي والحنتيت وسعدية وتاج يحملون القواقيل ( وهي رزم القش ) .
الموكب يمشي الهوينا والبيادرية يقدّمون السلاح في قرقعة وقعقعة ، تمتزج هتافاتهم بضحكاتهم وترواديهم .
ويتابع الموكب تقدمه ، شاقاً طريقة عبر مزراب داود .
( وهو يمتد من عند د سالم رمضان حتى بيت خليل الدقدوقي ) حتى يصل إلى الخندق مقر شحّود الصيفي ويتفرق البيادرية كل إلى عمله ، بعد أن أمضوا لحظات حلوة من المرح والمزاح البريء .
أما لماذا نتذكر اليوم هذا الرجل ، فذلك لأن في سيرته حادثة غريبة وقصة مثيرة ، تلك هي قصة وفاته هو وزوجته في وقت واحد .
في صبيحة يوم من أيام ربيع 1939 ، لوحظت في دار شحّود حركة غير عادية . نساء يدخلن إلى العليّة ( مازالت قائمة حتى اليوم وهي فوق دكان عمر الحنجول للأْحذية أعلى ساحة العين ) ، ونساء يخرجن ، وأبو مرعي قابع في ركن الدار ، مسنداً ظهره إلى الحائط ، مطرق الرأس ، حزيناً كئيباً يتمتم ويهمهم . ما الخبر ؟ أْم مرعي حالتها تقيلة وهي الآن تحتضر .
النسوة من حولها وهي في النزع الأخير يدعين الله أن يخفف عنها ويحسن ختامها ، وفيما كان أبو مرعي شارد الذهن يستعيد ذكريات الماضي ، إذ بإمرأة تخرج لتقول له : العوض بسلامتك إم مرعي ماتت .
فيرفع المسكين رأسه ويقول بصوت متقطع حزين : ماتت ؟ نعم يا أبا مرعي ، البقية في حياتك .
فيشرق المسكين بدموعه ، ويشهق شهقة يسلم على أثرها الروح ، ويخيم الصمت على المكان ، ويخيم سكون رهيب أمام عظمة الموت وحكم القدر ويسجّى شحّود في العليّة إلى جانب زوجته ، ويتقاطر الناس إلى داره أرتالاً بعد أن شاع خبر وفاته ووفاة زوجته .
الناس في دهشة وذهول من هذه المصادفة ، والنساء يذرفن الدموع وإن كنّ لا يستطعن إخفاء إبتسامة ترتسم على وجوههن .
وشيع شحّود وزوجته إلى مثواهما الأخير في برجا الشوف في مأتم بسيط وحزين ووريا الثرى جنباً إلى جنب في قبرين مجاورين .
وعاد الناس إلى بيوتهم وليس لهم من حديث سوى حديث موت شحّود وزوجته ، هذا الحدث الذي لم يسمعوا بمثله من قبل ، لا في برجا ولا في غيرها .
لقد عاش شحّود وزوجته شريكين مخلصين ، ورحلا عن هذه الدنيا رفيقين وفيين ، فكانت وفاتهما عبرة وعظة ورمزاً للوفاء بين الأزواج .
رحم الله شحّود وزوجته ، وسقى الله أيام البساطة والحب والوفاء .
من كتاب ” الحياكة البرجاوية , سير وعبر ” لمؤلفه الشيخ جمال بشاشة نقلاً عن الأستاذ أحمد سليم عزام .
من يود العيش في برجا القديمة فاليقرأ “كتاب الحياكة البرجاوية ,سير وعبر”
سيدخل من صفحته الأولى ويخرج من الاخيرة محملاً بقصص البساطة..مفعماً برائحة الألفة..وكأنه حصد القمح مع الذين حصدوا.. وجلس على كعوب الشجر مع من جلسوا..ووطئ البيوت القديمة..وشرب من النبع التي نضبت..
برجا…اشتقت لزمان الوفاء…مع اني لم اعشه